هل نملك نحن الشجاعة الكافية، كمجتمعات وكنُظم سياسية، لاختيار شخص نزيه؛ كقاضية نزيهة أو قاضٍ نزيه، ليقود مرحلةً انتقالية بعد كل ما عانيناه؟ أليس في قضائنا من هم أهلٌ للثقة؟ أليس في محكمتنا العليا أو مجالسنا القضائية من يُشهد لهم بالنزاهة والاستقلال؟ ألم يحن الوقت لأن تخرج القيادة من أيدي حيتان الفساد...
في لحظةٍ نادرة من التاريخ السياسي لدولة آسيوية صغيرة كنيبال، وقف الشعب قائلًا: “كفى!”.
لكن اللافت هذه المرة لم يكن مجرد الاحتجاج، بل مَن قاده، وكيف انتهى، وماذا يعني لنا نحن في العراق ولبنان والسودان ونحوها، حيث تتشابه الأسباب وتختلف النتائج.
لقد شهدت نيبال في سبتمبر 2025 موجة احتجاجات عارمة قادها جيل الشباب المعروف بـ”جيل Z”، احتجاجًا على قرارات حكومية قمعية، أبرزها حظر تطبيقات التواصل الاجتماعي. لكن ما فجّر الغضب فعليًا هو الإحساس العميق بالتهميش، والبطالة، وضياع العدالة، واستشراء المحسوبية في مؤسسات الدولة. تصاعدت الأحداث وسقط أكثر من خمسين قتيلًا، وامتد الغضب إلى كل مدينة وقرية تقريبًا، ومع كل هذا حدث ما لم يكن في الحسبان: استقال رئيس الوزراء، وحُلّ مجلس النواب، وجرى تعيين أول رئيسة وزراء في تاريخ البلاد، قاضية سابقة معروفة بنزاهتها واستقلالها، تُدعى سوشيلا كاركي، لقيادة مرحلة انتقالية تمهيدًا لانتخابات عامة.
ما حدث هناك يُشبه كثيرًا ما عشناه ونعيشه في بلدان مثل العراق، حيث قاد الشباب في انتفاضة تشرين مطالباتٍ بإصلاح النظام، وإنهاء الفساد، والمحاسبة، وإسقاط النخب الفاشلة، وسبقه في إقليم كوردستان حراكٌ شعبي بدأ منذ عام 2011 ولا يزال مستمرًا حتى اليوم. وفي لبنان، نزل الآلاف إلى الشارع يطالبون بحياة كريمة، ونظام لا تلتهمه الطائفية والمحسوبية. وفي السودان، خرج الشباب من كل الطبقات متحدين الطغيان، ومطالبين بمدنية الدولة. في كل هذه الحالات، كان الوجع نفسه: جيلٌ يرى وطنه يُنهب، وأحلامه تُجهض، وأصواته تُسكت.
لكن بفارقٍ في النتيجة، إذ استجابت السلطة في نيبال - ولو متأخرة - وفسحت المجال أمام شخصية قضائية نزيهة، لا تنتمي إلى الأحزاب، ولا تدين بالولاء لأحد، لتقود المرحلة الانتقالية. أما في منطقتنا، ففي أغلب الحالات، ما زال القمع يُواجَه بالغضب، والتعديل يُقابَل بالتجميل، والمطالب تُردّ بالتسويف والشعارات.
تعيين امرأة لرئاسة الوزراء هناك لم يكن لتجميل صورة الدولة، بل كان اعترافًا بفشل الرجال، وفشل الأحزاب، ونجاح القضاء النزيه في استعادة الثقة. ولم تكن كاركي ناشطة سياسية، بل قاضية متقاعدة، أعادها الشارع إلى الواجهة بفضل سيرتها العطرة وثقة الناس بها.
والسؤال الذي يطرح نفسه عندنا: هل نملك نحن الشجاعة الكافية، كمجتمعات وكنُظم سياسية، لاختيار شخص نزيه؛ كقاضية نزيهة أو قاضٍ نزيه، ليقود مرحلةً انتقالية بعد كل ما عانيناه؟ أليس في قضائنا من هم أهلٌ للثقة؟ أليس في محكمتنا العليا أو مجالسنا القضائية من يُشهد لهم بالنزاهة والاستقلال؟ ألم يحن الوقت لأن تخرج القيادة من أيدي حيتان الفساد، ووحوش السلطة المتحزبين، والحواشي المفسدين، ومستشاري السوء، وتُسند إلى أولئك الذين قضوا حياتهم بين دفاتر العدل لا صفقات السياسة؟
إن ما حدث في نيبال ليس معجزة، بل رسالة. رسالة مفادها أن التغيير لا يأتي فقط بالثورة، بل بالثقة. وأنّ الشباب إذا قاد، فهو لا يريد مَن يعامله كرقم انتخابي، بل من يُنصت إليه، ويثق به، ويقدّم له قدوة حقيقية في القيادة.
فهل نستطيع أن نتعلّم؟ وهل تحظى مؤسسة القضاء عندنا، بقضاتها وقاضياتها، بفرصة مماثلة؟ أم أننا نُصرّ على أن نبقى في الدائرة نفسها، نُعيد تدوير الوجوه، وننتظر نتائج مختلفة؟
اضف تعليق