في سبتمبر 2025، لم يدخل العالم مرحلة "تحالفين متواجهين" على غرار القرن العشرين، بل مرحلة تعددية مرنة، حيث تصوغ القوى الكبرى سياساتها وفق ملف الطاقة أو التكنولوجيا أو الأمن. هذا الانتقال يحمل فرصاً كما يحمل مخاطر، ويختبر قدرة القادة على إدارة التوازن بين التعاون والتنافس...

في سبتمبر 2025 بدا المشهد الدولي، وكأنه لوحة جيوسياسية قيد الرسم، تضاف إليها خطوط جديدة وتمحى أخرى قديمة. لم يعد العالم محكوماً بأحادية قطبية ولا حتى بثنائية جامدة، بل بات يتحرك في فضاء معقد من اصطفافات مرنة، حيث الاقتصاد يلتقي بالأمن، والتكنولوجيا تتحول إلى سلاح استراتيجي، والدبلوماسية تعكس سباقاً محموماً على إعادة تعريف ميزان القوى. ما حدث في بكين، وباريس، وواشنطن خلال أيام معدودة، لم يكن مجرد تتابع للأحداث، بل تجسيد لتحول تاريخي يمهد لولادة نظام عالمي جديد.

العرض العسكري الصيني الهائل في ساحة تيانانمين لم يكن احتفالاً تقليدياً بالذكرى الثمانين لانتصارها على اليابان، بل رسالة استراتيجية صريحة. صواريخ فرط صوتية، أنظمة ليزر دفاعية، وطائرات مسيّرة تحت الماء؛ جميعها جسدت إرادة بكين في إظهار أنها لا تكتفي بدور القوة الاقتصادية الثانية، بل تسعى إلى موقع "المُنظم للتحالفات".

حضور بوتين وكيم جونغ أون وقادة إيران أضفى على المشهد بعداً رمزياً، عاكساً ملامح محور أوراسي جديد، يتحدّث بلغة التنمية والسلام لكنه يتحرك على أرضية صلبة من الحسابات الجيوسياسية لمواجهة الضغط الغربي.

غير أن المفاجأة الكبرى جاءت من نيودلهي. مشاركة رئيس الوزراء مودي في قمة شنغهاي، مع تجنبه حضور العرض العسكري، حملت دلالة واضحة: الهند تختار "الاستقلال الاستراتيجي". فهي توازن بين شراء الطاقة الروسية بأسعار مخفضة، والانفتاح الاقتصادي على الصين، والحفاظ على شراكاتها الأمنية مع واشنطن واليابان.

الهند لا تنخرط في تحالف اندماجي مع أي طرف، بل تمارس سياسة التوازن الذكي، مستفيدة من التنافس بين الأقطاب لتعزيز مصالحها الداخلية، ما يرسخ موقعها كـ"لاعب محوري" في النظام الجديد.

في المقابل، لم تقف الولايات المتحدة مكتوفة الأيدي. ففي باريس، جرى حشد داعمي أوكرانيا لترسيم مستقبل المواجهة مع موسكو، بينما استضاف البيت الأبيض لقاءً غير مسبوق مع قادة كبريات شركات التكنولوجيا.

الرسالة الأمريكية مزدوجة: ردع عسكري عبر التحالفات الأطلسية. جبهة تكنولوجية– اقتصادية قادرة على ضمان تفوق واشنطن في الذكاء الاصطناعي وأشباه الموصلات.

هكذا بدا أن الغرب يدرك أن معركة القرن الحادي والعشرين لن تُحسم بالدبابات فقط، بل بالسيادة الرقمية وسلاسل الإمداد التكنولوجية.

تعليق الرئيس السابق دونالد ترامب بأن "أمريكا خسرت الهند وروسيا لصالح الصين" تجاوز مجرد خطاب انتخابي. إنه يعكس قلقاً أمريكياً دفيناً من تصدّع منظومة التحالفات التقليدية. ومع أن الهند ما زالت تمارس "دبلوماسية الحافة"، فإن مجرد طرح ترامب لهذه الفكرة يكشف عن عمق إدراك النخبة الأمريكية، بأن ميزان القوى يتحرك بالفعل بعيداً عن قبضة واشنطن.

ما يتشكل اليوم ليس نسخة ثانية من الحرب الباردة، بل اصطفافات متشابكة تتحرك وفق الملفات: أمنياً: محور صيني–روسي–كوري شمالي يواجه شبكات أطلسية، دون معاهد رسمية ملزمة. اقتصادياً–طاقوياً: مسارات بديلة بين موسكو وبكين ونيودلهي، تضعف أثر العقوبات الغربية. تكنولوجيا: سباق محموم على الذكاء الاصطناعي والرقائق، حيث يتقاطع الاقتصاد مع الأمن والسيادة الرقمية.

هذه المرونة تمنح الأطراف مساحة مناورة، لكنها تزيد من هشاشة النظام وتفتح ثغرات لأزمات مفاجئة.

رغم التوتر المتصاعد، يبقى احتمال اندلاع حرب عالمية شاملة ضعيفاً بفضل الردع النووي وتشابك المصالح الاقتصادية. لكن "نوافذ الخطر" مفتوحة في ثلاث مناطق: أوكرانيا: حيث قد يرفع التعاون الروسي–الكوري الشمالي مستوى المواجهة. تايوان وبحر الصين الجنوبي: اختبار حقيقي للخطوط الحمراء بين واشنطن وبكين. شبه الجزيرة الكورية: حيث التداخل بين تدريبات الحلفاء والتزامات موسكو تجاه بيونغ يانغ قد يطلق أزمة جديدة.

في سبتمبر 2025، لم يدخل العالم مرحلة "تحالفين متواجهين" على غرار القرن العشرين، بل مرحلة تعددية مرنة، حيث تصوغ القوى الكبرى سياساتها وفق ملف الطاقة أو التكنولوجيا أو الأمن. هذا الانتقال يحمل فرصاً كما يحمل مخاطر، ويختبر قدرة القادة على إدارة التوازن بين التعاون والتنافس.

الخلاصة أن مستقبل النظام الدولي لن يُحسم بالقوة العمياء، بل بقدرة الأطراف على استخدام العقل البارد في عالم ساخن. فمن ينجح في توظيف أدواته دون الانزلاق إلى مواجهة كارثية، سيكون هو الرابح الحقيقي في معركة القرن.

اضف تعليق