قمة أنكوراج لا يمكن قراءتها بمعزل عن التحول الأكبر نحو نظام دولي متعدد الأقطاب. العالم لم يعد يدور حول قطبين ثابتين كما في الحرب الباردة، بل حول شبكة معقدة من القوى الصاعدة والإقليمية التي تحاول إعادة صياغة النفوذ، روسيا تسعى لتثبيت موقعها كمحور موازن للقوة الأمريكية...
في السياسة الدولية، لا تُقاس القمم فقط بما يُقال على الطاولة، بل بما يُخطط خارج القاعة، وما يُقرأ بين السطور. قمة أنكوراج في ألاسكا بين الرئيس الأمريكي دونالد ترامب والرئيس الروسي فلاديمير بوتين ليست حدثاً بروتوكولياً فحسب، بل لحظة اختبار لخرائط النفوذ، وفرصة نادرة لقراءة اتجاهات الصراع بين قوى كبرى تبحث عن تثبيت أو كسر معادلات عمرها عقود.
ألاسكا، التي كانت يوماً أرضاً روسية قبل بيعها لأمريكا عام 1867، تعود اليوم لتصبح مسرحاً لمواجهة باردة بملامح جديدة، حيث تختلط الرمزية الجغرافية بالمصالح الاقتصادية، وتتداخل ملفات الحرب والسلام مع لعبة النفوذ.
الحرب في أوكرانيا تمثل العقدة الأكبر في المشهد، والهوة بين المواقف لا تزال سحيقة. روسيا متمسكة بمكاسبها في القرم وشرق أوكرانيا، وأوكرانيا ترفض أي تنازل عن أراضيها. في ظل هذه المواقف الصلبة، يصبح الحديث عن “حل نهائي” مجرد وهم دبلوماسي، بينما الاحتمال الواقعي هو إدارة الأزمة أو تجميدها دون المساس بجذورها.
ترامب، الذي جعل من إنهاء الحرب الأوكرانية شعاراً انتخابياً، يكتشف أن الشعارات أسهل من الواقع. محدودية خبرته السياسية، مع اندفاعه الإعلامي، جعلته رهينة لتوقعات عالية. حتى هيلاري كلينتون، خصمه السياسي اللدود، سخرت من هذا الوعد بقولها إنها سترشحه لجائزة نوبل إذا نجح في إقناع بوتين بالانسحاب ـ إدراكاً منها أن ذلك أشبه بمهمة مستحيلة.
السيناريو الأكثر ترجيحاً هو أن يمنح بوتين ترامب “هدنة تكتيكية” أو وقفاً مؤقتاً لإطلاق النار، تسمح للأخير بالظهور بمظهر القائد القوي أمام الداخل الأمريكي، بينما تظل موسكو محتفظة بأوراقها الاستراتيجية. هنا، تصبح القمة منصة لتبادل الرسائل أكثر من كونها أداة لصناعة الحلول.
بعيداً عن الخطاب الرسمي، لا ترى واشنطن مصلحة عاجلة في إنهاء الحرب. فالكلفة المالية تتحملها أوروبا، والأسلحة الأمريكية تجد سوقاً مزدهراً، وصناعة الدفاع تزدهر بفضل النزاع. بالنسبة لترامب، الذي يصفها بأنها “حرب بايدن”، فإن استمرار الأزمة قد يمنحه أوراق ضغط على خصومه الداخليين.
المفارقة أن قمة تناقش أخطر ملفات الأمن القومي الأوروبي تُعقد دون حضور الأوروبيين على الطاولة. هذه الإزاحة تعكس حقيقة جيوسياسية أعمق: أوروبا، رغم كونها ساحة المعركة، لا تزال تعتمد على واشنطن في تقرير مسار الأحداث، لتصبح أقرب إلى متفرج يدفع الثمن.
وجود وزراء التجارة والمالية في الوفدين يثير الشكوك حول أجندات غير معلنة، ربما تشمل تفاهمات اقتصادية أو صفقات تتجاوز العقوبات المعلنة. مثل هذه الخطوات قد تثير قلق أوروبا وتكشف عن براغماتية أمريكية روسية تتجاوز الشعارات الأيديولوجية.
ألاسكا ليست مجرد موقع محايد، بل إشارة تاريخية ذات أبعاد سياسية. عقد القمة هناك يرمز إلى وجود روابط خفية بين واشنطن وموسكو، وإلى إمكانية إعادة تعريف العلاقات بعيداً عن خطوط المواجهة التقليدية. إنه اختيار يلمّح إلى أن الجغرافيا يمكن أن تتحول أحياناً إلى أداة تلطيف للتوتر.
بوتين، السياسي المخضرم الذي تمرس في لعبة الشطرنج الجيوسياسي، يواجه ترامب، رجل الأعمال الشعبوي الذي يتقن لغة الصورة أكثر من تفاصيل الملفات. سبع ساعات من النقاش قد تكون ساحة لإظهار الفارق بين من يخطط على المدى الطويل ومن يفضل الصفقات السريعة، مع احتمال ميل الكفة لصالح بوتين في إدارة التفاصيل.
قمة أنكوراج لا يمكن قراءتها بمعزل عن التحول الأكبر نحو نظام دولي متعدد الأقطاب. العالم لم يعد يدور حول قطبين ثابتين كما في الحرب الباردة، بل حول شبكة معقدة من القوى الصاعدة والإقليمية التي تحاول إعادة صياغة النفوذ.
روسيا تسعى لتثبيت موقعها كمحور موازن للقوة الأمريكية، فيما الولايات المتحدة تحاول الحفاظ على قيادة النظام العالمي عبر مزيج من التحالفات التقليدية والتفاهمات التكتيكية حتى مع الخصوم.
أما الصين، وإن لم تكن حاضرة في القمة، تبقى اللاعب الثالث الذي يراقب ويفهم أن أي تقارب روسي ـ أمريكي قد يعيد ترتيب أولويات التنافس الاستراتيجي. بهذا المعنى، قمة أنكوراج ليست مجرد نقاش حول أوكرانيا أو التجارة، بل جزء من مفاوضات أوسع حول شكل القوة في القرن الحادي والعشرين. بغض النظر عن مخرجات القمة، فإن بوتين يربح بمجرد الجلوس مع رئيس أمريكي، لأنه يكسر طوق العزلة ويعيد تثبيت حضوره كلاعب رئيس في المشهد الدولي.
أما ترامب، فسيكون نجاحه مرهوناً بقدرته على انتزاع تنازلات حقيقية من موسكو، وهو ما قد يضعه عملياً تحت إيقاع بوتين لا العكس. في النهاية، قمة أنكوراج ليست محطة لإنهاء صراع، بل فصل جديد في لعبة إعادة رسم موازين القوى، حيث يتداخل التكتيك مع الرمزية، وتظل الحقيقة الأهم أن العالم يدخل مرحلة تفاوض على شكل النظام الدولي المقبل من ألاسكا، لا من كييف أو موسكو.
اضف تعليق