لا غالبَ ولا مغلوبَ هنا؛ الكلُّ خاسرٌ من دون استثناء. فالحلُّ لا يختصر في رأيٍ فردي، بل في مبادرات مشتركة تعيد للإنسان توازنه وتخرجه من عزلته عن الذات والآخر، حتى لا يحيا في أوهامٍ سرعان ما تتحطّم، أو يختتم حياته بالانتحار. وليس المطلوب مجرد مشاريع تقنيةٍ أو اجتماعيةٍ فحسب...
لم يزل الإنسان على مرِّ العصور مشغوفًا بتأمُّل بيئته ومساءلة واقع وجوده، يجوب بفكره فضاءات الكون، يحاول اختراق ألغازها، بلهفةٍ تلهبه رغبة معرفةٍ لا تشبع. وفي الوقت الذي امتدّ فيه بحثه الكوني (الكوزمولوجي) لآفاقٍ بعيدة، لم يستطع أن يرسم لوحةً شاملةً ترضِي تطلعاته، فتخبو أمامه أسرارٌ تتراقص بين الأمل في اكتشاف عوالم جديدة وقلقٍ من انفجارٍ محتملٍ يُطيح بإنجازاته.
ومع زحف الإنسان إلى الفضاء الخارجي، وتحوّل المواد الخام تحت تصرّفه، وتجدُّد شروط حياته المادية بطرائقٍ مذهلة، تبقى هناك ثغراتٌ سوداءٌ، وعالمٌ غامضٌ يقبع خلف سحبٍ دامسةٍ. ذلك يعود لوجود سؤالٍ جوهري: هل نستمرّ في السعي نحو المجهول، أم نعود إلى بساطة طوَرِنا الأولى؟ فبعض التيارات الفلسفية والطبيعية (Naturalism) ترى في الرجوع إلى الطبيعة الأصلية خلاصًا من صخب الحضارة، كما عبّر جان جاك روسو حين فضّل «البريّ النبيل» على الفلاح المسلَّم لقواعد المجتمع.
غير أن ازدهار الحياة المادية وجلبها من النعيم ما لا يُحصى، أفضى في الوقت ذاته إلى أزمات أخلاقية معقّدة، فتصاعد الصراع بين رغبات النفس وواجبات القيم الأخلاقية. وهكذا ظهر "إنسان القطب الواحد" الذي يركن إلى شهواته ويغفل عن البعد القيمي، سائدًا في المجتمعات الحديثة، فيما صار الاعتزاز بـ(الإكسِيولوجيا) –القيم والجمال والخير– علامة زمنٍ متخلّف.
وفي خضم هذه المواجهة، شنّت الحضارة العالمية معاركها على الدين والأخلاق، فأضحى التفكير ذاتيًا ضيق الأفق، حتى صارت المبادئ الإنسانية الكبرى تثير الشكوك حول صلاحيّتها في زمن التقنية والربح السريع.
إن الإنسان الذي يقف اليوم أمام مُنحدَر الانكفاء على الذات، يوشك على محكّ وجوده؛ ففي كلماته الصادقة يقول برنارد شو: «الإنسان اليوم كائنٌ تحت الاختبار، فإذا فشل، فإنه مهدد بالانقراض كما انقرض الماموث». فالانفصام الحاصل بين جمال الحضارة الظاهر وقبحها الخفي، يختزل مأساة الفرد المتيه بين الرخاء المادي والفراغ الروحي.
ومن هذا المنطلق تدفق الصراع في ميدان الحروب والهيمنة والقسوة، وهو في جوهره انعكاس لأزمات نفسية فردية وجماعية. ولم يَكفِّر الإنسان بصراعه العالمي عن خيباته الماضية، بل واصل تنامي تسلّحه، تعبيرًا عن فراغٍ وجدانيٍّ عميقٍ وميولٍ ماديةٍ لا تهدأ.
حين نمعن النظر، نكتشف أن هذه الحرب ليست بين حضاراتٍ متناحرة، بل بين نماذجٍ من الإنسان الواحد، كلُّها خاسرة. ولا تختلف أمريكا عن غيرها من الدول في مسؤولية الدماء المهدورة، بل تزيد حساباتها ثمنًا حين ينهش الجنود خيرات الشعوب ويخسرون أنفسهم في حروبٍ لا تنتهي.
ولعلاج هذه الظاهرة، لابد من حوارٍ معمَّق يضمّ كل الأجيال والثقافات، لتشريح صراعاتنا المعرفية والروحية، مستلهِمين الفطرة السليمة والعقل المنضبط ومنهج الإسلام الذي يحمل رؤيةً كونيةً متكاملةً. فالإسلام بلسمٌ شافٍ لجراح الإنسانية المتعَطِّشة للمنطق والخير.
ومن الجدير بالذكر أن لا غالبَ ولا مغلوبَ هنا؛ الكلُّ خاسرٌ من دون استثناء. فالحلُّ لا يختصر في رأيٍ فردي، بل في مبادرات مشتركة تعيد للإنسان توازنه وتخرجه من عزلته عن الذات والآخر، حتى لا يحيا في أوهامٍ سرعان ما تتحطّم، أو يختتم حياته بالانتحار.
وليس المطلوب مجرد مشاريع تقنيةٍ أو اجتماعيةٍ فحسب، بل مشروعٌ أساسيٌّ لإنقاذ الإنسان من قوقعته النفسانية، وإعادة انفتاحه على الخالق، وعلى الناس، وعلى الكون. وإلا فتتوالى بوادر حشْوته الوحشية، وتختفي إنسانيته شيئًا فشيئًا.
إننا لسنا بمُهجَّرين كما (حي بن يقظان) أو (روبينسون كروزو)، بل نعيش على جزيرةٍ محاطةٍ بضبابٍ لا يرى فيه كلٌ منا صاحبه، نعاني عزلةً جذورُها في داخلنا قبل الخارج.
ومن هنا ينبع الأمل في تأمّلنا لجماعاتٍ في الغرب تنتظر مصلحًا غائبًا، كاشفةً –ولو من غير وعيهم– عن توقٍ فطريٍّ لإمامٍ مهديٍّ يملأ الأرض عدلًا كما مُلئت ظلمًا. فلنعقد الندوات ونجمع الأفكار ليستنير العالم برؤيةٍ جامعةٍ تحقّق سعادةَ الجميع دون قيدٍ أو شرط.
اضف تعليق