ظل العراق لعقود محكومًا بدستور مؤقت، ما جعل الشرعية القانونية لذلك الحكم هشّة، وتابعة لأمزجة الحاكم لا لسيادة القانون، وكانت الإدارة قسرية، والعقد الاجتماعي غائبًا بالكامل. فوق ذلك، لم يصن ذلك الحكم وحدة الوطن ولا احترم تنوّعه، إذ خاض حربًا شرسة ضد الأكراد واستخدم السلاح الكيمياوي في حلبجة...
الوطني المزيف يبدأ بكذبة وينتهي بكارثة، وكذبة (الحكم الوطني) واحدة من أكثر الأكاذيب انتشارًا في سرديات الزمن القبيح.
لكن ما يؤسف له أن البعض من السنّة ما زال يتغنى بوصف حكم صدام حسين بـ(الحكم الوطني)، ويدّعون أنه مثّل نموذجًا للسيادة والكرامة.
لكن مراجعة دقيقة لمسار ذلك الحكم تكشف أنه لم يكن حكمًا للوطن، بل حُكمًا ضد الوطن، ولا يمكن أن تُغسل الدماء بالشعارات.
(الحكم الوطني) لم يأتِ من إرادة شعبية ولا من صناديق اقتراع، بل من انقلاب عسكري دموي سنة 1968، أرسى سلطة مستبدة حكمت العراق بالحديد والنار دون اعتبار لحقوق الناس أو تمثيلهم الحقيقي.
وقد ظل العراق لعقود محكومًا بدستور مؤقت، ما جعل الشرعية القانونية لذلك الحكم هشّة، وتابعة لأمزجة الحاكم لا لسيادة القانون، وكانت الإدارة قسرية، والعقد الاجتماعي غائبًا بالكامل.
فوق ذلك، لم يصن ذلك الحكم وحدة الوطن ولا احترم تنوّعه، إذ خاض حربًا شرسة ضد الأكراد واستخدم السلاح الكيمياوي في حلبجة، ثم استهدف المكوّن الشيعي بإقصاء علمائه ومؤسساته، وانتهى به الأمر إلى دفن الآلاف منهم في مقابر جماعية بعد قمع انتفاضة آذار 1991 بالصواريخ والدبابات.
وطن يُدفن فيه المواطن حيًا، لا يمكن أن يوصف حكمه بـ"الوطني". بإمكانكم أن تسمّوه (الحكم السني) إن شئتم، وتمجّدوه كما تمجّدون حكم الجولاني اليوم، لكن لا يصح وصفه بـ(الحكم الوطني)، لأنه لم يكن حكمًا لكل العراقيين، بل حكمًا لطائفة واحدة، حتى أن الشيعة في ذلك الزمن لم يُعيَّن أحد منهم مديرًا لناحية جنوبية واحدة.
أما في مسألة السيادة، فالتنازلات كانت سمة ثابتة لذلك الحكم. ففي اتفاقية 1975، تنازل (الحكم الوطني) عن شط العرب لشاه إيران، ثم عاد وشنّ حربًا مدمّرة استمرت ثماني سنوات مطالبًا بما تنازل عنه، قبل أن يعود ويتنازل من جديد وكأن العراق خاض حربًا ليخسر مرتين.
وما إن انتهت تلك الحرب حتى غزا الكويت بحجّة استعادة حقوق عراقية، فأدخل العراق في مواجهة عسكرية مع 30 دولة، وانتهت تلك المغامرة بانسحاب مذل، وإبادة واسعة للجيش العراقي، وتدمير شامل للبلاد، ثم وضع العراق تحت وصاية دولية، وحصار استمر 13 عامًا.
وتنازل (الحكم الوطني) عن أم قصر وخور عبد الله وشريط حدودي واسع بعمق 42 كيلومتر لصالح الكويت، وظل العراقيون يدفعون تعويضات لتلك الحرب لعقدين، فدفع الشعب ثمن الخطأ الجسيم للـ(الحاكم الوطني).
منذ 1991 وحتى 2003، عاش العراقيون تحت وطأة الحصار أسوأ الظروف: نقص في الغذاء، وانهيار للقطاع الصحي، وموت الأطفال بسبب انعدام الأدوية، وحرمانهم من السفر إلا إلى الأردن، حيث عمل الكثيرون منهم في مهن مهينة وتعرّضوا لأبشع أشكال التمييز.
كل ذلك لم يمنع (الحكم الوطني) من الاستعراض والبذخ، فبينما يموت الشعب من الجوع والدواء، كان صدام يركب عربات مرصعة بالذهب ويقيم الولائم لعائلته.
وعندما طالبه المجتمع الدولي بالتنحّي وإجراء انتخابات، رفض ذلك، وفضّل أن يدخل العراق في حرب جديدة سنة 2003، انتهت بالاحتلال الأمريكي وتمزيق البلاد وفتح بوابة الفوضى على مصراعيها.
فأي (حكم وطني) هذا الذي لا يحتكم للشعب، ولا يصون ترابه، ولا يحمي دمه، بل يورّطه في حروب خاسرة، ويجعل أجياله تدفع ثمن غروره لعقود؟
الوطنية لا تُثبتها الخطابات، بل يمتحنها الصدق، والعدالة، والكرامة، والشراكة في الحكم.
الحكم الوطني هو ما قدّمه الشيعة كنموذج مشرّف في مرحلة ما بعد 2003، رغم كل ما واجهوه من تحديات داخلية ومؤامرات إفشال.
ففي ظل الحكم الحالي، يُمنح السنّي، والكردي، والتركماني من السلطة ما يفوق أحيانًا نسبته السكانية، دون تمييز. بل إن الشيعة غالبًا ما قدّموا للآخر أكثر مما اقتضته معادلة الاستحقاق.
ولو أراد الشيعة أن يحكموا على طريقة الحكم (الوطني)، لمنعوا الآخر من المشاركة في السلطة، كما يفعل الجولاني حاليًا. لكنهم اختاروا طريقًا آخر، أساسه أن الوطن لا يُبنى بالإقصاء، ولا تُكتب هويته بالدم، بل تُكتب بتكافؤ المصير وعدالة المشاركة.
اضف تعليق