الأسوأ أن هذه النتيجة جاءت بعد سنوات من الحديث عن “إعادة إعمار الموصل”، وكأن المدينة التي دُمرت بالكامل لا تستحق أكثر من مبنى إسمنتي مغلق ومهبط لا يليق حتى بطائرات الطيران الداخلي، فما جرى في مطار الموصل ليس فقط تقصيرا في التنفيذ، بل هو استخفاف صريح بأحلام الناس وطموحاتهم...
يقال "تمخض الجمل فلود فأرا"، هذه المقولة تنطبق على مطار الموصل الدولي الذي افتتح قبل أيام من وقت كتابة هذا المقال، فبعد ترقب وانتظار طويلين ولد لنا المطار بصيغته الحالية، التي اشبه ما تكون خيبة امل أخرى تضاف الى خيبات الامل والمفاجئات غير السارة التي ترافق تنفيذ المشروعات الحكومية في الوقت الحالي.
ليس وحدي من انتابه الشعور بعدم الرضا المطلق حين رؤية بوابة المطار المُفتتح في عام 2025، الذي يجب ان تطبق جميع المعايير العمرانية والتقنية الحديثة، وجلب آخر ما توصلت الاكتشافات فيما يخص تنفيذ وبناء المطارات، لكن المفاجأة هي ان المشروع الذي يفترض أن يعيد ربط ثاني أكبر مدن العراق بالعالم، بدا وكأنه محطة نقل ريفية مؤقتة.
لقد خلى المطار وبحسب الصور المنشورة خلال حفل الافتتاح من أبسط المعايير التي يفترض أن تتوفر في مطار دولي، الأمر تجاوز خيبة الأمل ليصل إلى الشعور بالإهانة، ليس فقط لأهالي الموصل، بل لكل من كان يتطلع إلى رؤية رمز من رموز الإعمار والحداثة في العراق بعد الحرب.
وبمقارنة مبسطة مع احدى مطارات المنطقة وهو مطار حمد الدولي الذي تم افتتاحه في عام 2014، ومطار الموصل الذي تم افتتاحه في العام الجاري 2025، اذ يتضح الفارق الكبير بينهم، فشتّان بين مطار الموصل الذي يبدو كمشروع تخرج متعّجل لطالب هندسة، بينما مطار حمد يمكن عده تحفة معمارية تُدرّس في أرقى كليات التصميم والهندسة.
تقرأ من الافتتاح الأخير ان الحكومة العراقية ارادت ان تقول إننا افتتحنا، بعيدا عن جميع المعايير والاستراتيجيات التي تتبعها الدول التي تريد ان تبني سمعتها ومكانتها الاقتصادية.
طبعا بالنظر الى فارق المكانة والموقع الذي يتحلى فيه مطار حمد، لكن هذا لا يمنع من ان يكون المطار المنفذ عام 2025، بداية من حيث انتهت التقنية العالمية والجهود الدولية الرامية لحسين الخدمات المتعلقة بالمسافرين على مدى السنوات القادمة.
تجعل الدول المتطورة والراغبة بتسويق نفسها الى العالم الخارجي من مطاراتها حكاية غريبة يتناقلها جميع المارين بها، بينما ماذا يريد ان ينقل الذي يقلع من مطار الموصل او يهبط فيه عائدا من دولة اوربية او إقليمية؟
لا ينقل سوى المشاهد المخجلة لما انتهت اليه عملية تنفيذ المطار بهذه الشاكلة، مطار تتجول فيه عبر الصور تشم راحة الفساد الذي نهش اجسام المشروعات الوطنية وحولها الى مشروعات تعبر عن حالة عجز حكومي للحاق بركب التطور العالمي والاستفادة من التجارب الدولية.
المطار الذي كلف ملايين الدولارات يبدو أقرب إلى مبنى حكومي قديم أعيد طلاءه بسرعة، تفتقر قاعاته إلى البنية التحتية التقنية اللازمة، ناهيك عن غياب أي طابع معماري يدل على هوية المكان أو يحاكي تطور النقل الجوي في العالم.
لننظر إلى مطار الدوحة الدولي الذي تحول إلى نموذج عالمي رغم أنه شُيّد في بلد أقل سكانا من العراق بكثير، اذ يتمتع بتصميم هندسي عصري، وخدمات ذكية متقدمة، وتجهيزات أمنية عالية المستوى، إلى جانب مساحات مريحة للمسافرين تضم متاجر عالمية ومرافق للراحة، وسرعة عالية في معالجة إجراءات السفر.
حتى مطارات أقل شهرة مثل مطار تبليسي في جورجيا أو مطار لاهور في باكستان توفر بيئة سفر حديثة تليق بسمعة البلد، أما في مطار الموصل، فلا صالات انتظار مريحة، ساحة المطار ترابية في بعض أجزائها، ومرافقه الصحية بدائية، فيما غابت مساحات الخدمات التجارية والمطاعم، ما يثير تساؤلات كبيرة: هل هذا مطار فعلاً؟ أم مجرد واجهة لحدث إعلامي أراد صانعوه تسجيل إنجاز سريع على الورق؟
والسؤال الأهم هو كيف وصل المشروع إلى هذا المستوى من الهشاشة؟
الإجابة تكمن في ثلاث دوائر متشابكة:
أولها الفساد الإداري، من خلال ترسية العقود لشركات غير مؤهلة، لا تمتلك الخبرة في إنشاء مطارات بمعايير عالمية، اما الدائرة الثانية هي غياب التخطيط الحقيقي، فالمشروع واضح انه أُنجز على عجالة، دون استشارة خبراء دوليين أو حتى دراسة جدوى دقيقة، بينما تتمثل الدائرة الثالثة في الرغبة في الإنجاز السياسي السريع، فالهدف لم يكن بناء مطار، بل إعلان افتتاحه، بغض النظر عن مستواه.
الأسوأ أن هذه النتيجة جاءت بعد سنوات من الحديث عن “إعادة إعمار الموصل”، وكأن المدينة التي دُمرت بالكامل لا تستحق أكثر من مبنى إسمنتي مغلق ومهبط لا يليق حتى بطائرات الطيران الداخلي، فما جرى في مطار الموصل ليس فقط تقصيرا في التنفيذ، بل هو استخفاف صريح بأحلام الناس وطموحاتهم.
المطار لم يكن مشروعا تقنيا فحسب، بل رمزا لإحياء المدينة، ومن الممكن أن يتحول إلى نقطة انطلاق لنهضة اقتصادية وسياحية لو أُنجز بشكل سليم ...
فهل فرحتم بالافتتاح؟
اضف تعليق