قد تكون المظاهرات في العراق تأجلت او توقفت إلى أجل غير مسمى، لكن ذلك لا يعني أن الأسباب انتهت، بل يعني أن النظام نجح مؤقتا في ترويض الشارع، وتحويله من فاعل جماهيري إلى مراقب عاجز، وهذا الترويض قد ينهار في أي لحظة، ليس على شكل مظاهرات جديدة، بل ربما بشكل أكثر فوضوية وخطورة...

شكلت تشرين بعد انطلاقها نقطة تحول محورية في مسار النظام السياسي بعد عام 2003، حيث نزل آلاف الشباب الى الشارع في مخلف المحافظات العراقية، متجاوزين الاختلاف في المذهب والعقيدة، تتركز مطالبهم حول إصلاح النظام السياسي، ومكافحة الفساد، واستعادة الوطن من قبضة المحاصصة والتبعية، ومع أن تلك الحركة أسقطت حكومة عادل عبد المهدي آنذاك وأرعبت الطبقة الحاكمة، إلا أن المشهد اليوم يبدو مختلفا تماما، بل شبه ميؤوس منه.

وما جعل اليأس يتسرب الى نفوس معظم العراقيين في عدم اندلاع المظاهرات مرة أخرى، هو انخراط معظم محركي الاحتجاجات السابقة في العمل السياسي او الاستفادة من الوضع السياسي القائم في الوقت الحالي، فعلى سبيل المثال نجد الكثير من الشباب يتهافتون على المكاتب الخدمية لأعضاء البرلمان الحاليين.

اشغال هذه الشريحة الواسعة من الشباب بالوعود الكاذبة من قبيل العمل على تعينهم وزجهم على الأقل في الأجهزة الأمنية، قلع جذور الاحتجاجات الشعبية من الأساس؛ ذلك ان اغلب المظاهرات كان المحرك الأساس لها هم شريحة الشباب العاطلين عن العمل ومن يساندهم في أوقات متفرقة.

وبذلك تكون معظم الحركات الرافضة للممارسة السياسية الحالية دخلت مرحلة التمييع المنظم، من خلال استيعاب الاعداد الكبيرة في التنظيمات الحزبية وتصفية بعض الرموز، يرافق ذلك توجيه الرأي العام ضدها عبر العديد من التهم منها الارتباط الخارجي، ثم جاء الانخراط السياسي لعدد من ناشطي تشرين ليشكّل القشة الأخيرة. 

وبدلا من العمل على تحقيق المطالب الشعبية أصبحت هذه القوة المؤثرة جزءا من النظام نفسه، وفي النهاية عليها الخضوع لمتطلبات العمل السياسي داخل العراق، والمتمثلة بالمساومة والمهادنة والقبول بالدخول الى الغرف المظلمة التي تجري فيها الاتفاقات المشبوهة.

وبعد هذه التحول في مسار عمل هذه الحركات، أصبحنا اليوم امام غياب واضح لجميع مؤشرات حقيقية على عودة الزخم الشعبي إلى الشارع، ليس لأن أسباب الغضب قد زالت، بل لأن القاعدة الجماهيرية فقدت ثقتها بكل مشروع احتجاجي. 

هذا ان وجدت المشروعات الاحتجاجية، بل تحولت الى الواقع الافتراضي، وآخر الشواهد على هذه التحول التعامل مع موضوع خور عبد الله، حين تستمتع لآراء المحللين الاقتصاديين وآثار هذا الاستقطاع على المستقبل التجاري العراقي، حتى وصفت القضية بأنها موت بطيء.

ومع ذلك لم نر أي استعداد للخروج والاحتجاج على إصرار رئاسة الحكومة وتقديمها طعن بقرار المحكمة الاتحادية العليا، واجبرت بعض القضاة الى تقديم استقالتهم بعد اعتراضهم الصريح على الآلية التي تعاملت بها الحكومة العراقية مع الملف، واستعدادها للتخلي عن حقوق أجيال قادمة.

 من جانب آخر ساهم النظام السياسي الحالي نفسه في احتواء أي فكرة من شأنها تأجيج الموقف وحدوث الاحتجاج، اذ اتبعت آليات متعددة، اهمها الرعاية الأمنية المشروطة، تبني إصلاحات شكلية، وإغراق الشارع بقضايا جانبية مثل الانتخابات، الدولار، الرواتب، إيران وأمريكا، وهكذا لم يعد الشارع العراقي اليوم مؤهلا للانفجار، رغم استمرار المعاناة، لأن أدوات الاحتجاج إما أُفرغت من معناها أو أصبحت رهينة مشاريع شخصية.

وبينما تعيش الطبقة السياسية نوعا من الاستقرار المزيف، فإن هذا الجمود لا يُبشر بخير، وغياب المظاهرات لا يعني رضا الشعب، بل يشير إلى حالة من اللا جدوى واليأس العام، والأسوأ من ذلك، أن البديل عن الاحتجاج لم يعد التنظيم أو التعبئة، بل الانسحاب من المجال العام وعدم تحمل المسؤولية الإصلاحية.

قد تكون المظاهرات في العراق تأجلت او توقفت إلى أجل غير مسمى، لكن ذلك لا يعني أن الأسباب انتهت، بل يعني أن النظام نجح مؤقتا في ترويض الشارع، وتحويله من فاعل جماهيري إلى مراقب عاجز، وهذا الترويض قد ينهار في أي لحظة، ليس على شكل مظاهرات جديدة، بل ربما بشكل أكثر فوضوية وخطورة، في حال غابت البدائل السياسية الجادة.

اضف تعليق