إن الدنيا التي نعيشها في العِمْر المخصص لنا من الله تعالى، تشبه فترة الاستراحة القصيرة التي لا تطول، لأنها سرعان ما تزول بنهاية عمر الإنسان الذي لا يساوي شيئا قياسا للحياة الأبدية في الآخرة، لهذا من الغريب أن يستبدل الإنسان البقاء الأبدي بالفناء الخاطف...
(اعزموا على الزهد لتوفّقوا) سماحة المرجع الشيرازي دام ظله
ما أجملهُ من توصيف وما أدقّهُ، ذلك الوصف الذي أبدعه رسول الله صلى الله عليه وآله عندما مثَّلَ الدنيا كأنها ظل شجرة سرعان ما يغيب وينتهي، وهذا التوصيف هو رسالة للإنسان كي لا يتعلّق بالدنيا وكأنها باقية لا تزول، بل هي أقرب إلى الزوال من أي شيء آخر، لذا على الإنسان أن يفهم هذا التشبيه وهذا الوصف وأن يعيه جيدا، حتى لا تخدعه الدنيا بمظهرها البرّاق وبمغرياتها التي تغري الإنسان لكنها لا تفيده ولا تنفعه.
إن الدنيا التي نعيشها في العِمْر المخصص لنا من الله تعالى، تشبه فترة الاستراحة القصيرة التي لا تطول، لأنها سرعان ما تزول بنهاية عمر الإنسان الذي لا يساوي شيئا قياسا للحياة الأبدية في الآخرة، لهذا من الغريب أن يستبدل الإنسان البقاء الأبدي بالفناء الخاطف، فالظل الذي يعود للشجرة خفيف وليس كثيفا لأن ورقة الشجر ليست سميكة ولا تمنع مرور ضوء الشمس بشكل كامل لذلك يكون ظلها خفيفا، وهكذا هي الدنيا.
سماحة المرجع الديني الكبير، آية الله العظمى، السيد صادق الحسيني الشيرازي دام ظله، يقول في محاضرته الجديدة الواردة ضمن سلسلة نبراس المعرفة: محاضرة لحياة منظَّمة وموفَّقة:
(مَثلُ هذه الدنيا كمثلِ ظلّ شجرة سرعان ما ينتهي ظلّها ويزول وقد لا يتجاوز زمن هذا الظلّ سوى فترة استراحة قصيرة. فالدنيا مثّل لها رسول الله صلى الله عليه وآله بهذا المقدار من الظل، وحتى أنّ ظلّ ورقة الشجر بسيطة لأنّها خفيفة تدخل منها حرارة الشمس).
لذا فإن الأدلة الكونية والواقعية تخبرنا بأن نسبة الدنيا متواضعة جدا حيال الآخرة الأبدية، وشتان ما بين السريع الخاطف زمنيا وبين الباقي أبديا، لذلك فإن عمر الإنسان مهما بلغ وعمَّر في هذه الدنيا فإنه لا يساوي شيئا أمام بقاء الآخرة، وهذا وحده كفيل بأن يدعو الإنسان إلى التأمل في هذا الفارق الهائل زمنيا بين الدار الأولى (الدنيا) وبين الدار الباقية (الآخرة).
ولكن هناك شرائط للاستفادة من هذا الفارق الشاسع بين الدارين، حيث يجب على الإنسان أن يفهم ويعرف كيف يعيش بشكل صحيح هذه الاستراحة القصيرة في الدنيا إذا ما قورنت مع الحياة الأزلية.
يقول سماحة المرجع الشيرازي دام ظله:
(إنّ نسبة الدنيا الى الآخرة هي نسبة بسيطة لا يمكن القياس فيما بينها، فالحياة الدنيوية الفانية متواضعة إذا ما قسناها بالحياة الأبدية الباقية في الآخرة، ومهما طالت أعمارنا في الدنيا لكنها لا تساوي شيئا مقابل الحياة الآخرة).
فوائد معرفة الفرق بين داريّ البقاء والفناء
لذا من الأفضل للإنسان أن يطالع ويلاحظ ما ورد في الأحاديث الشريفة من أمثلة تبيّن له أن ما يعيشه بعد موته فترات طويله جدا، بحيث أن يوم القيامة وحده يعدل ما يساوي (خمسين ألف سنة) إذا قسناه بالزمن المتعارف عليه في الدنيا، وهذا التقدير الزمني كبير جدا قياسا بالزمن الدنيوي، لذا من المهم جدا أن تتم ملاحظة ذلك ومعرفته بدقة من قبل الإنسان حتى لا يخسر جودة العيش في كنف الدار الباقية.
من هنا يؤكد سماحة المرجع الشيرازي دام ظله قائلا:
(لو يلاحظ الإنسان الأحاديث الشريفة التي ذكرت بعض الأمثلة عن الفترة التي سيعيشها بعد الموت يراها فترات طويلة، فيوم القيامة وحده على حدّ تعبير القرآن الكريم: (يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ) سورة المعارج: الآية 4.
إذًا هذه المعرفة الدقيقة بين الدارين مطلوب من جميع الناس، فخلال الخمسين سنة التي يعيشها الإنسان في الدنيا سوف يرى الكثير من العقبات والمصاعب التي تجعل من دنياه مؤلمة وشاقة، وكذلك تلك الأفراح التي يعيشها، ربما تكون سببا في معاناة كبيرة تحدث له، لذا عليه أن يعيش هذا العمر الخاطف بحيث ينقله بسلام نحو العيش في الدار الأخرى الأطول زمنيا وأبقى، بحيث تكون المقارنة والفارق هائل بين الدارين.
وهناك من يعيش مئة سنة في الدنيا أو أكثر، ولكن إذا كان اليوم الواحد في الآخرة يساوي 50 ألف سنة من المقياس الزمني للدنيا، فهل هناك قيمة زمنية للعمر الدنيوي في مقابل الزمن الأخروي، بالطبع ليس هناك أي مجال للمقارنة الزمنية بين دار الزوال ودار البقاء.
ولو افترضنا أن عمر الإنسان كان مئة سنة أو أكثر من ذلك، فهل لهذا الزمن قيمة تجاه زمن الآخرة؟، في الحقيقة ليست هناك فرصة للمقارنة، ولهذا لابد أن يستثمر الإنسان عمره القصير في الدنيا حتى لو تجاوز المئة، أما كيف يستثمره لكي يضمن العيش في دار البقاء بسلام وسعادة وأمان، فهذا واضح ومعروف ومحدد في الأحكام الشرعية وفي التعاليم الدينية، ولكن يحتاج تطبيقه إلى إرادة إيمانية متعاظمة.
يقول سماحة المرجع الشيرازي دام ظله:
(نحن أحياناً لا نعيش في هذه الدنيا سوى خمسين سنة، لكننا في هذه الخمسين سنة نرى الويلات والمشاكل والمحن، من أفراح نتمتع بها، وأتراح نعاني منها وتطوّرات تحصل في حياتنا خلال السنوات الخمسين، فما بالك بمن يعيش مئة سنة أو أكثر. وخمسين ألف سنة من الدنيا تعدّ يوماً واحداً من أيام الآخرة، فلعل الانسان إذا كان عمره خمسين سنة أو أكثر من ذلك أو أقل، فكم ستألّف تلك السنوات من حياته في الآخرة؟ والجواب: لا شيء البتة).
سبل ضمان الفوز بدار البقاء
وحتما هناك طرق وسبل ووسائل يعتمدها الإنسان في الدنيا حتى يضمن آخرته بشكل تام، ومنها أن يعزف عن الدنيا وأن يكون عصيًّا على إغراءاتها، وأن لا يسمح للدنيا بأن تخدعه بشهواتها المتنوعة، شهوة المال، والسرقة والاختلاس والسلطة والنفوذ وما شاكل ذلك، لذا يجب مقاطعة الملذات المحرّمة وطردها من حياته، وترك الشهوات التي تسحب الإنسان إلى منطقة المحرمات والسيئات التي تودي به إلى فقدان فرصة العيش في الدار الخالدة.
وهذا لا يعني أن يترك الإنسان كل الملذات وكل الشهوات، بل هنالك طيبات الحلال التي يمكنه الاستفادة منها والتمتّع به، فليس كل ما موجود في الدنيا ممنوعا أو محرَّما، وإنما سمح الله تعالى بالكثير من الطيبات التي يمكن للإنسان أن يتمتع بها لأنها ضمن الحلال المسموح.
حيث يقول سماحة المرجع الشيرازي دام ظله:
(إنّ من صفات المؤمن أن يكون زاهداً في الحياة الدنيا وعازفاً عن ملذّاتها وشهواتها، ولکن هذا لا يعني أن يترك جميع ما أحلّ الله له من الطيبات كما تقول الآية المباركة ﴿وابتغ فيما آتاك الله الدار الآخرة ولا تنسَ نصيبك من الدنيا) سورة القصص، الآية 77.
وهذا يعني أن الزهد لا يحرم الإنسان من ملذات الخير، ولا من المتع المحلَّلة، فالزهد له مجاله ومقداره المعروفان شرعيا، فالزهد لا يعني أن يحرم الإنسان نفسه أو حتى عائلته، من الأمور والفوائد المسموح بها كونها حلالا للإنسان ويمكنه الاستفادة منه.
فالمهم والأهم في هذا الجانب أن لا تدع الأشياء والرغبات تتملكك وتتحكم بك وتخضعك لها، بل العكس يجب أن يحدث، حيث تحكم الإنسان بالأشياء، ويقبل ما هو محلَّل منها ويرفض ويطرد ويقاطع ما هو محرَّم منها، فهناك في هذه الدنيا ما هو مسموح للإنسان ويمكنه تعاطيه والاستفادة منه طالما أنه لا يقع خارج المقبول شرعيا.
حيث يقول سماحة المرجع الشيرازي دام ظله:
(يجب أن يكون الزهد في مجاله وبمقداره، حسب ما يذكره الفقهاء رضوان الله عليهم، والزهد ليس معناه أن تعرّض نفسك للمزاحمات وأن لا تملك أي شيء في هذه الدنيا. وبهذا الصدد يقول الإمام أمير المؤمنين عليه السلام: (ليس الزهد أن لا تملك شيئاً، بل الزهد أن لا يملكك شيئاً).
بالنتيجة وفي عودة إلى الوصف النبوي الدقيق للدنيا، فإنها ليست سوى ظل شجرة غير كثيف بل خفيف، وعلى الإنسان الذكي المؤمن أن يفهم هذا التوصيف ويستخدمه لصالحة، لاسيما ضمانه الفوز بالدار الأخرى، بالإضافة إلى العيش في الدنيا بضمير مرتاح وسعيد كونه لم يتجاوز الحلال إلى الحرام ولم يتجاوز على حقوق الآخرين.



اضف تعليق