في ظل تصاعد الأنظمة السلطوية وتآكل المؤسسات الديمقراطية لا يكتفي التقرير برصد الأرقام، بل يغوص في تفكيك الأزمات المركبة التي تحاصر العمل الصحفي؛ بدءاً من استمرار ظاهرة الإفلات من العقاب، مروراً بالأزمة الاقتصادية التي تعصف باستدامة وسائل الإعلام المستقلة، وصولاً إلى التحديات التقنية التي يفرضها الذكاء الاصطناعي والتضليل الرقمي...

يقدم تقرير اليونسكو الجديد قراءة تحليلية معمقة لواقع حرية التعبير، كاشفاً عن انحدار مقلق في المؤشرات العالمية لحرية الصحافة بنسبة 10% منذ عام 2012، في ظل تصاعد الأنظمة السلطوية وتآكل المؤسسات الديمقراطية.

لا يكتفي التقرير برصد الأرقام، بل يغوص في تفكيك الأزمات المركبة التي تحاصر العمل الصحفي؛ بدءاً من استمرار ظاهرة الإفلات من العقاب في جرائم قتل الصحفيين، مروراً بالأزمة الاقتصادية التي تعصف باستدامة وسائل الإعلام المستقلة، وصولاً إلى التحديات التقنية الجديدة التي يفرضها الذكاء الاصطناعي والتضليل الرقمي. ويهدف هذا الملخص للتقرير إلى استعراض وتحليل هذه الاتجاهات العالمية، مؤكدةً على الفرضية المركزية للتقرير بأن الصحافة المستقلة والنزيهة ليست مجرد مهنة، بل هي "منفعة عامة" وشرط لا غنى عنه لتشكيل عالم يسوده السلام والعدالة. وجاء عنوان تقرير اليونسكو: الاتجاهات العالمية في حرية التعبير وتطوير وسائل الإعلام - التقرير العالمي 2022/2025".

مقدمة منهجية:

 الإطار العام والأهمية الاستراتيجية يُعد التقرير العالمي لليونسكو لعام 2022/2025 وثيقة مرجعية محورية تصدر في لحظة تاريخية حرجة، حيث يقف العالم على بعد خمس سنوات فقط من الموعد النهائي لتحقيق أهداف التنمية المستدامة (SDGs) لعام 2030. ينطلق التقرير من فرضية مركزية مفادها أن الصحافة الحرة والمستقلة والتعددية والمهنية ليست مجرد "كماليات" ديمقراطية، بل هي شرط مسبق وركن أساسي للدفاع عن الكرامة الإنسانية، وتعزيز العدالة، واستدامة السلام العالمي.

يعتمد التقرير في منهجيته التحليلية على عدستين رئيسيتين لفهم التحولات العالمية:

1. المعلومات كمنفعة عامة: وهي الرؤية التي تم تكريسها في إعلان "ويندهوك+30"، والتي تؤكد أن المعلومات يجب أن تكون متاحة للجميع وتخدم المصلحة العامة.

2. نزاهة المعلومات: وهو مفهوم برز استجابةً للتلوث المعلوماتي الهائل، ويركز على دقة وموثوقية المعلومات في مواجهة التضليل وخطاب الكراهية.

يكشف التقرير، مدعوماً ببيانات كمية ونوعية دقيقة، أن هذين المبدأين يتعرضان لضغوط غير مسبوقة، مما يهدد بشكل مباشر الهدف 16.10 من أهداف التنمية المستدامة المتعلق بضمان وصول الجمهور إلى المعلومات وحماية الحريات الأساسية.

الفصل الأول: التحليل الكمي والنوعي لتراجع الحريات والديمقراطية

يقدم التقرير تشخيصاً قاتماً للحالة السياسية العالمية وتأثيرها المباشر على البيئة الإعلامية، مستنداً إلى بيانات معهد "V-Dem" ومؤشرات أخرى.

1. الانحدار الهيكلي لحرية التعبير تشير البيانات إلى أن مؤشر حرية التعبير العالمي قد شهد تراجعاً حاداً بنسبة 10% منذ عام 2012. هذا العام (2012) كان يمثل ذروة تاريخية في مستويات حرية الصحافة، ولكن منذ ذلك الحين، دخل العالم في مسار انحداري مستمر. هذا التراجع ليس مجرد تذبذب إحصائي، بل هو تحول هيكلي عميق يعيد مستويات الحريات إلى الوراء بشكل لم تشهده البشرية إلا في فترات استثنائية مظلمة مثل الحروب العالمية أو فترات المد الاستبدادي في القرن العشرين.

يظهر التحليل الزمني أن وتيرة التدهور تتسارع:

* بين 2012 و2017: كان التراجع معتدلاً نسبياً.

* بين 2020 و2022: تسارعت الوتيرة بشكل حاد لتصل إلى 1.27% سنوياً.

* بين 2022 و2024: استمر التسارع ليصل إلى 1.30% سنوياً، مما ينذر بخطر متزايد.

2. الديمقراطية في مواجهة الأوتوقراطية (حكم الفرد) لأول مرة منذ عقدين من الزمن، أصبحت الأنظمة غير الديمقراطية (الأوتوقراطية) تفوق عدد الأنظمة الديمقراطية في العالم. وتكشف الإحصائيات الصادمة أن 72% من سكان العالم -أي ما يقرب من ثلاثة أرباع البشرية- يعيشون الآن في ظل أنظمة حكم غير ديمقراطية، وهو أعلى مستوى مسجل منذ عام 1978. هذا التحول الجيوسياسي له تداعيات مباشرة على الصحافة، حيث تميل الأنظمة الأوتوقراطية بطبيعتها إلى قمع الأصوات المستقلة والسيطرة على تدفق المعلومات.

3. تآكل الضوابط والتوازنات: يربط التقرير بشكل منهجي بين تراجع حرية الصحافة وتآكل المؤسسات الديمقراطية الأخرى. فالهجوم على الصحافة لا يحدث في فراغ، بل يتزامن مع:

* إضعاف البرلمانات والمؤسسات التشريعية التي يُفترض بها مراقبة السلطة التنفيذية.

* تقويض استقلال القضاء، مما يحرم الصحفيين من الحماية القانونية ضد تعسف السلطة.

* تراجع ثقة الجمهور في المؤسسات، وتعميق الاستقطاب المجتمعي الحاد.

4. تصاعد الرقابة الذاتية: أحد أخطر المؤشرات التي رصدها التقرير هو الارتفاع الهائل في الرقابة الذاتية. فبين عامي 2012 و2024، زادت الرقابة الذاتية بنسبة 63%، بمعدل نمو سنوي يقارب 5%. هذا يعني أن الصحفيين باتوا يتجنبون الخوض في الموضوعات الحساسة أو انتقاد السلطات خوفاً من الانتقام، مما يخلق "مناطق صمت" واسعة تغيب فيها الحقيقة.

الفصل الثاني: السلامة الجسدية والقانونية للصحفيين (حرب على الحقيقة)

يخصص التقرير مساحة واسعة لتحليل العنف الممارس ضد الصحفيين، مؤكداً أن العمل الصحفي أصبح مهنة محفوفة بالمخاطر المميتة، خاصة في مناطق النزاع.

1. القتل والإفلات من العقاب: أرقام مفزعة خلال السنوات الثلاث والنصف الماضية فقط، وثق التقرير مقتل 310 صحفيين. الرقم الأكثر إثارة للقلق هو تركز هذه الجرائم في مناطق النزاع، حيث وقعت أكثر من نصف حالات القتل (52.3%) في هذه المناطق. هذا يشير إلى تغيير في قواعد الاشتباك، حيث لم يعد الصحفي مجرد مراقب محايد، بل أصبح هدفاً عسكرياً مباشراً لطمس الحقائق.

أما عن العدالة، فهي شبه غائبة. تشير بيانات مرصد اليونسكو إلى أن 85% من حالات قتل الصحفيين المسجلة منذ عام 2006 لا تزال دون حل قضائي حتى عام 2024. وعلى الرغم من انخفاض هذه النسبة قليلاً عن مستوياتها السابقة (كانت 95% في 2012)، إلا أنها تظل نسبة مروعة ترسل رسالة واضحة للجناة بأنهم فوق القانون.

2. السجن والاعتقال التعسفي: وصل عدد الصحفيين المسجونين إلى مستويات قياسية، حيث تم تسجيل 361 صحفياً خلف القضبان بنهاية العام، وهو رقم يقترب من أعلى مستوى تم تسجيله على الإطلاق. يتم استخدام السجن كأداة لإسكات الأصوات الناقدة ومنع نشر المعلومات الحساسة.

3. ظاهرة "الصحافة في المنفى: "برزت ظاهرة النفي القسري كواقع عالمي متنامٍ ومأساوي. الصحفيون الذين يواجهون التهديدات في أوطانهم يضطرون للهروب للنجاة بحياتهم. في منطقة أمريكا اللاتينية والكاريبي وحدها، اضطر 913 صحفياً للنزوح أو النفي منذ عام 2018. هذا النزوح يخلق فراغاً معلوماتياً داخل البلدان الأصلية، ويحرم المجتمعات من صحفييها الأكثر شجاعة وخبرة. وتشير تقارير "مراسلون بلا حدود" إلى أن 70% من مساعدات الطوارئ التي قدمتها في العام الماضي ذهبت لصحفيين في المنفى.

4. العنف ضد الصحفيات: استهداف مزدوجتواجه الصحفيات هجمات مزدوجة تستهدفهن كمهنيات وكنساء. يكشف التقرير عن بيانات صادمة:

* تم قتل 24 صحفية بين عام 2022 وسبتمبر 2025.

* 73% من الصحفيات اللواتي شملهن استطلاع لليونسكو أبلغن عن تعرضهن لهجمات رقمية (تنمر، تهديد، تحرش).

* التحرش الجنسي في أماكن العمل لا يزال مستشرياً، حيث تعرضت 41% من الصحفيات لتحرش لفظي أو جسدي، ومع ذلك، لم تبلغ سوى 1 من كل 5 عن هذه الحوادث خوفاً من الانتقام أو الوصمة.

يهدف هذا العنف الممنهج، وخاصة العنف الرقمي القائم على النوع الاجتماعي، إلى طرد النساء من المجال العام وإسكاتهن.

5. تسليح القانون (Lawfare): رصد التقرير اتجاهاً متصاعداً لاستخدام القوانين كأداة لقمع الصحافة، وهو ما يعرف بـ "تسليح القانون".

* لا تزال قوانين التشهير الجنائي سارية في 160 دولة، مما يسمح بسجن الصحفيين بسبب كتاباتهم.

* يتم استخدام تهم فضفاضة وغير متعلقة بالصحافة لاستهداف الصحفيين الاستقصائيين، مثل "التهرب الضريبي"، "غسيل الأموال"، و"الابتزاز".

* برزت ظاهرة "الدعاوى القضائية الاستراتيجية ضد المشاركة العامة" (SLAPPs) كأداة لترهيب الصحفيين وإغراقهم في نزاعات قانونية مكلفة وطويلة الأمد تهدف إلى استنزافهم مالياً ونفسياً.

الفصل الثالث: التحديات الاقتصادية وجدوى وسائل الإعلام (Media Viability)

يصف التقرير الأزمة الاقتصادية التي تعصف بوسائل الإعلام المستقلة بأنها "تهديد وجودي".

1. انهيار النموذج التقليدي وهيمنة العمالقة: تواجه وسائل الإعلام التقليدية نزيفاً حاداً في الإيرادات، حيث انتقلت حصة الأسد من عائدات الإعلانات إلى منصات التكنولوجيا الرقمية الكبرى. تشير التقديرات لعام 2025 إلى أن ثلاث شركات تكنولوجية كبرى فقط (ميتا، أمازون، ألفابت) تسيطر على أكثر من 50% من الإنفاق الإعلاني العالمي (باستثناء الصين). هذا الاحتكار الاقتصادي يترك المؤسسات الصحفية المهنية تكافح من أجل البقاء، مما يؤدي إلى إغلاق غرف الأخبار، وتسريح الموظفين، وظهور "صحاري الأخبار" حيث تغيب التغطية المحلية تماماً.

2. فخ الاعتماد على المنصات وتراجع الإحالات: تعتمد وسائل الإعلام بشكل كبير على المنصات الرقمية للوصول إلى الجمهور. ومع ذلك، قامت هذه المنصات بتغيير خوارزمياتها مما أدى إلى تقليل حاد في "إحالة" (Referral) الزوار إلى المواقع الإخبارية في الفترة 2023-2024. هذا يعني انخفاضاً في عدد الزوار، وبالتالي انخفاضاً في عوائد الإعلانات والاشتراكات. علاوة على ذلك، بدأت أدوات الذكاء الاصطناعي التوليدي في تقديم "إجابات" مباشرة للمستخدمين (Zero-click searches)، مما يلغي الحاجة للنقر على الروابط وزيارة المصدر الأصلي.

3. نقص الدعم الدولي: على الرغم من الحاجة الماسة للدعم المالي لضمان بقاء الإعلام المستقل، يكشف التقرير عن فجوة تمويلية هائلة. فبين عامي 2016 و2022، تم توجيه 0.5% فقط من المساعدات الإنمائية الرسمية (ODA) لدعم قطاع الإعلام والمعلومات. هذا النقص يترك وسائل الإعلام في الدول النامية والهشة عرضة للانهيار أو "الاستحواذ الإعلامي" (Media Capture) من قبل جهات سياسية أو تجارية تفرض أجنداتها الخاصة.

الفصل الرابع: الثورة الرقمية والذكاء الاصطناعي (وعود وتهديدات)

يُفرد التقرير مساحة واسعة لتحليل تأثير التكنولوجيا الناشئة، وخاصة الذكاء الاصطناعي التوليدي، على بنية المعلومات العالمية.

1. مفارقة الذكاء الاصطناعي (AI Paradox): يشير التقرير إلى مفارقة مقلقة: بينما يُنظر إلى الذكاء الاصطناعي كأداة ثورية، فإنه يشكل تهديداً لسلامة المعلومات. والمفارقة الأكبر هي أن استطلاعات الرأي تظهر أن الناس في بعض الدول باتوا يثقون في أدوات الذكاء الاصطناعي أكثر من ثقتهم في وسائل الإعلام التقليدية أو الحكومات، على الرغم من ميل هذه الأدوات لإنتاج معلومات خاطئة أو متحيزة.

2. التزييف العميق وتآكل الحقيقة: أدى ظهور الذكاء الاصطناعي التوليدي إلى تسهيل إنتاج "التزييف العميق" (Deepfakes) بتكلفة زهيدة وسرعة عالية.

* يتم استخدام هذه التقنية لإنشاء صور جنسية غير توافقية تستهدف النساء والفتيات لإسكاتهن وابتزازهن.

* يتم انتحال شخصيات الصحفيين والسياسيين للاحتيال المالي أو نشر التضليل السياسي.

* تنتج نماذج اللغة الكبيرة (LLMs) أحياناً "هلوسات" (Hallucinations)؛ أي معلومات ملفقة تماماً يتم تقديمها بثقة تامة كحقائق، مما يلوث البيئة المعلوماتية.

3. التحيز الثقافي واللغوي: تتدرب نماذج الذكاء الاصطناعي غالباً على بيانات تهيمن عليها اللغة الإنجليزية ووجهات نظر "الشمال العالمي". هذا يؤدي إلى تهميش اللغات والثقافات الأخرى، وترسيخ التحيزات الجندرية والعرقية الموجودة في البيانات الأصلية.

4. وسائل التواصل الاجتماعي: بيئة خصبة للكراهية على الرغم من أن 1.5 مليار شخص اكتسبوا إمكانية الوصول إلى وسائل التواصل الاجتماعي بين 2020 و2025 ، إلا أن هذه المنصات أصبحت ساحة لمعارك التضليل.

* تراجعت المنصات الكبرى عن التزاماتها بضبط المحتوى، وتم تقليص فرق تقصي الحقائق.

* تم تصميم الخوارزميات لزيادة "تفاعل" المستخدمين (Engagement) بأي ثمن، مما يعني في كثير من الأحيان تفضيل المحتوى المثير للجدل، والغاضب، والمتحيز على حساب الصحافة الرصينة.

* 67% من مستخدمي الإنترنت أبلغوا عن تعرضهم لخطاب الكراهية عبر الإنترنت، مع استهداف خاص للأقليات.

5. الانتخابات في العصر الرقمي: في عام 2024، الذي وُصف بـ "عام الانتخابات الكبير" حيث أجريت انتخابات في 72 دولة، أعرب 9 من كل 10 ناخبين في استطلاع لليونسكو عن خوفهم من أن يؤثر التضليل على نزاهة الانتخابات. أصبحت الحملات الانتخابية تعتمد بشكل متزايد على "المؤثرين" وتجاوز وسائل الإعلام التقليدية لتجنب المساءلة والتدقيق.

الفصل الخامس: الصحافة في مواجهة الأزمة البيئية (أزمة الكوكب)

يربط التقرير بشكل وثيق بين أزمة المعلومات والأزمة البيئية الثلاثية (تغير المناخ، فقدان التنوع البيولوجي، التلوث).

1. استهداف الصحفيين البيئيين: الصحفيون الذين يغطون قضايا البيئة والمناخ يدفعون ثمناً باهظاً. وثق مرصد اليونسكو مقتل 46 صحفياً بيئياً منذ عام 2010، مع معدلات إدانة منخفضة جداً (6 إدانات فقط). يتعرض هؤلاء الصحفيون لهجمات من قبل جهات قوية (شركات تعدين، لوبيات وقود أحفوري، عصابات قطع أشجار) تسعى لإخفاء جرائمها البيئية. كما تم رصد 749 هجوماً ضد صحفيين بيئيين في 89 دولة بين عامي 2009 و2023.

2. التضليل المناخي (Climate Disinformation): رصد التقرير ارتفاعاً في منشورات إنكار المناخ بنسبة تتراوح بين 24% و40% على المنصات الرقمية الكبرى بين عامي 2021 و2024. يتم استخدام وسوم مثل #ClimateScam (احتيال المناخ) للتشكيك في العلم والحقائق المثبتة. تقوم جماعات الضغط باستخدام استراتيجيات التضليل المنهجية لتقويض الإجماع العلمي وتأخير العمل المناخي العاجل.

3. الارتباط بين حرية الصحافة والعمل المناخي: تُظهر البيانات وجود علاقة إحصائية قوية بين قدرة الإعلام على العمل بحرية وقوة سياسات المناخ في الدول. الدول التي تتمتع بصحافة حرة ومستقلة تميل إلى امتلاك سياسات مناخية أقوى وأكثر شفافية والتزاماً بالاتفاقيات الدولية. هذا يؤكد أن حماية الصحافة هي شرط أساسي لحماية الكوكب.

الفصل السادس: استجابات ومبادرات مضادة (بصيص أمل)

على الرغم من قتامة المشهد، يرصد التقرير اتجاهات إيجابية ومبادرات هامة تسعى لتصحيح المسار:

1. الصحافة الاستقصائية التعاونيةنمو الصحافة العابرة للحدود التي تجمع صحفيين من دول مختلفة للعمل سوياً على كشف الفساد والجرائم البيئية وغسيل الأموال. هذا النوع من التعاون يوفر حماية أكبر للصحفيين ويسمح بمتابعة القضايا المعقدة التي تتجاوز الحدود الوطنية.

2. التنظيم الرقمي وحوكمة المنصاتهناك تحركات جادة لفرض الشفافية والمساءلة على شركات التكنولوجيا. من أبرز الأمثلة "قانون الخدمات الرقمية" (DSA) في الاتحاد الأوروبي، ومبادرات اليونسكو لحوكمة المنصات الرقمية التي تهدف لجعل الإنترنت مساحة أكثر أماناً وموثوقية.

3. الدفاع عن حقوق الملكية الفكريةفي خطوة هامة، قامت إحدى منصات الإنترنت الكبرى بالتحالف مع صانعي المحتوى ووسائل الإعلام لحظر "زواحف الذكاء الاصطناعي" (AI bots) غير المصرح بها من سرقة المحتوى واستخدامه لتدريب النماذج دون تعويض، مما يمثل تحالفاً نادراً لحماية حقوق الملكية الفكرية.

4. الدعم المجتمعي والاعتراف القانوني: يُظهر التقرير أن 49% من الدول أصبحت تعترف قانونياً بوسائل الإعلام المجتمعية (Community Media)، وهو تطور إيجابي يعزز الأصوات المحلية والتعددية. كما أن هناك زيادة في الاشتراكات الرقمية المدفوعة للأخبار، مما يعكس رغبة قطاع من الجمهور في دعم الصحافة الجيدة.

5. التربية الإعلامية والمعلوماتية (MIL): تزايد الوعي بأهمية "التربية الإعلامية والمعلوماتية" كأداة لتمكين الجمهور من التعامل النقدي مع المعلومات، وكشف التضليل، وحماية أنفسهم من الكراهية عبر الإنترنت. ويوصي التقرير بزيادة الاستثمار في هذا المجال بشكل عاجل.

خاتمة وتوصيات استراتيجية

يخلص التقرير الشامل لليونسكو إلى نتيجة حتمية ومصيرية: العالم يقف عند مفترق طرق. بدون تجديد حوكمة الاتصالات لتكون متعددة الأطراف وراسخة في مبادئ حقوق الإنسان، فإن الاتجاهات التراجعية (قمع، تضليل، عنف، إفلات من العقاب) ستستمر في الهيمنة، مما يهدد بتقويض كل ما تحقق من تقدم في العقود الماضية.

لا يمكن تحقيق التنمية المستدامة، أو السلام العالمي، أو العدالة المناخية في ظل بيئة معلوماتية ملوثة ومقيدة.

يوصي التقرير بضرورة العمل الفوري على خمس ركائز لنزاهة المعلومات:

1. تعزيز الثقة العامة: من خلال دعم الصحافة المهنية والمستقلة.

2. خلق حوافز اقتصادية: للمعلنين وشركات التكنولوجيا لدعم نزاهة المعلومات بدلاً من التربح من التضليل.

3. الاستثمار في الوعي: زيادة برامج التربية الإعلامية والمعلوماتية (MIL) لتمكين المستخدمين.

4. دعم الإعلام المستقل: توفير دعم مادي وتشريعي لوسائل الإعلام لضمان بقائها واستقلاليتها.

5. الشفافية الرقمية: فرض شفافية أكبر على المنصات الرقمية فيما يخص الخوارزميات وسياسات المحتوى، وضمان الوصول إلى البيانات للباحثين والصحفيين.

إن هذا التقرير ليس مجرد رصد بارد للأرقام والبيانات، بل هو جرس إنذار مدوٍ للإنسانية جمعاء، يؤكد أن الدفاع عن الصحافة هو دفاع عن الحقيقة، وعن حق الشعوب في تقرير مصيرها، وعن قدرة البشرية على بناء عالم يسوده السلام والعدالة.

اضف تعليق