إذا تمكن المثقف من تجسير الخبرة بينه وبين الأشخاص الأصليين، ستعود الفائدة إلى الثقافة والاختراع والمستقبل في البلاد، لكن الأمر لا يعود إليه، بل إلى الأشخاص الأصليين أولًا، حيث لا بد من أن تتولوا تلك الثقة لأعلاء المثقفين خصوصيته وفردانيته...
منذ وقت مبكّر عرفون المثقفون العراقيون الغربيون، العلماء عرفوا الاغتراب، والغربة هم الابتعاد فيزيولوجي عن المكان، أما الاغتراب فهو نتيجة وضع الفرد في البناء الاجتماعي ووعيه هذا الوضع وسلوكه كمغترب وفقا للخيارات المتاحة.
والكثير من المثقفين العراقيين عاشوا حالات اغتراب في نفس المنزل قبل غربتهم، والاغتراب يمكن أن يكون اجتماعيًا أو عسكريًا أو عاطفيًا، وما تشكله تلك الاغترابات من عزلة وروحية، ومع الغربة المكانية المركزية المركز عمقًا ومأساويةً.
عاش العديد من المثقفين العراقيين أكثر من ثلث عمرهم البيولوجي وأكثر من نصف عمرهم الجامعيين في المثقفين، وأذكر هنا على سبيل المثال لا الحصر بعض المثقفين مثل الجواهري ومظفر النواب ومحمود صبري وبلند الحيدري ومصطفى جمال الدين وعبد الوهاب البياتي وسعدي العلوي وسعدي يوسفي رائعة فرمان ومحمد مكيّة ومحمد كامل عارف وقيس الزبيدي وناهدة الرماح تجرّت الجادرجي وزينب وسلام خيّاط. وضياء العزاوي وفاضل العزاوي والسالمة صالح وغيرهم.
اغتراب المثقفين
أستطيع القول إن الغالبية الساحقة من المثقفين عاشت اغتراب كبيرة وغربة في الآن، وإن كان الأخير أقل وطأة، ثم قد يتساءل الجواهري الكبير: تريد كان هناك يا أبا فرات في يمكن؟ هل زهرير المنفى أم فردوس الحريّة؟ (وكان قد عاشق فيها 7 سنوات عجاف على حد تعبيره).
وبعد أن تسحب نفسًا عميقًا من سيجارته أجاب: للجميع، أي والله. وبالفعل الأخرى فالمرفض على الرغم من قسوته أعطانا أشياء كثيرة من إضافة الحريّة، فضلّا عن الفارسي على ثقافات الشعوب وأمم وعادات وتقاليد ولغات وأجناس وأعراق ساهمت في رفد ثقافاتنا العربية – الإسلامية.
الكاتب العبد الفقير عاش في عدد من المنافي في ثلاث قارات: آسيا وأفريقيا وأوروبا، وأقام في الكتاب المطبوع، وتنقّل بين الكتاب الكتاب والمنازل والشقق، وعانى واغتنى في الآن بما شاهده واختلط به وترافق معه.
ربما لغرق الغياب والبعد عن الوطن والحنين إليه ظلّت تلازمه عاصفة أن الوطن يعيش في قلبه، ولكن من الباقي في الوطن، وإن لم تشعر بالغربة حيثية فقد عاشت الاغتراب، وذلك ما عاناه الغالبية الحقيقية الساحقة من المثقفين الذين تأتوا للاستلاب والعسف والمحاربة والرزقة وشحّ حريّة التعبير والرقابة، فضلّا عن الحروب العبثية، التحرير والحصار الدولي الجزائر، والاحتلال البغيض، ثم الفوضى والمحاصصة والفساد وفيروسه.
يمكن القول بأن كلا منها هي مثقفة في الداخل وكانت مركزة ومزدوجة في الميادين المهنية سياسياً واجتماعياً وسياسياً ونفسياً، مما يجعلها تفوق الوصف. إنها غير مكثفة تمامًا الثقافة العراقية بريمتها، ورافدها الثقافة القديمة التي عاشوا في الخارج يتآكلون أمامهم ويتشظوا، ويحرمون هم ووائلهم من أبسط حقوق العيش الكريم. وتكهن بماييزت في أسبابها، ولكن طبعات ما يزيد عن خمسة عقود من الزمن. وغالبّا ما نتساءل، أين المثقفون من المسائل العامة؟
والسؤال ليس عراقيّا أو عربيّا الاستخدام، بل إنه سؤال كوني، حيث ترى النخب الثقافية والفكرية الحديثة عن الاستخدام العام والسياسة بشكل خاص، حيث حين كان حضورهم فاعلًا ومؤثرًا في ثلاثينيات ويثنيات المنصرم، أخذ هذا الدور يتراجع منذ دينيات القرن الماضي، حيث ترى تكاد تكون شبه خالية من المثقفين، وإذا رأيت هناك لا يوجد ما يزينون خطاب الفلسفة، ويحرقون البخور ويجمّلون الحديث.
بكلام آخر هذه القلة من المثقفين لا يمكن التعبير عن رأيها بحريّة بقدر تعبيرها عن رأي إدارات بروتوكولات وتجاذبات السياسة الثقافية الخاصة. وبالتالي فإن موضوعًا محددًا، أصبحت الغالبية العظمى من المساحة المثقفة خارج الساحة، ومن ثم بقي منها لا يُذكر له.
في خمسينيات القرن الماضي كان المثقف العراقي هو التخصص الأبرز، حيث انطلقت موجة ثقافية جديدة في جميع المجالات، في الشعر والرسم والنحت الموسيقى والغناء والمسرح والسينما والعمارة، وفي السياسة لعب المثقفون الدور الأبرز، ومن كتب بيان جبهة الاتحاد الوطني (آذار/ مارس 1957) الطيب العقل الدكتور إبراهيم كبّة وموافقة إلى المؤسسة الرابعة إلى الأمام للعيدة.
قوة إن المثقفين تضع في أفكارهم وإبداعهم وقدراتهم على التجرد، بما يتناسب مع الفيلسوف البريطاني فرانسيس بيكون سلطة، وعلى المثقف ألّا يتخلى عن سلطانه، والمقصود إبداعه، تحت أي مشرف أو مسويغ.
ثقافة المثقف تعني إبداعه، وهذا الأخير يعني قيمه جمالية، تلك التي لا تقبل منه أن يكون حاشية الشامل لا ينبغي أن يكون بشكل علني ومتعالي عن تحرير في التعبير عن مشاكل مجتمعه وهموم بلده وتطلعات شعبه.
وإذا تمكن المثقف من تجسير الخبرة بينه وبين الأشخاص الأصليين، ستعود الفائدة إلى الثقافة والاختراع والمستقبل في البلاد، لكن الأمر لا يعود إليه، بل إلى الأشخاص الأصليين أولًا، حيث لا بد من أن تتولوا تلك الثقة لأعلاء المثقفين خصوصيته وفردانيته.
قوة اقتراح
على المثقفين أيضًا عدم الانتظار، بل يجب عليه أن يقوم بمبادرات وتواصل مع مجتمعه، ويتحكم في قوة الكريستال وليس قوة مساهمين، فهو معي بقضايا الناس من أصغرها حتى أعقدها، فهل يستطيع التثقيف الحقيقي أن يرى مشاهد الدمار والقتل في غزّة وأن يدفن في النساء مثل النعامة؟
ذلك هو المثقف الكوني بمفهوم إدوارد سعيد، وهو وجه آخر لفرد الخلايا بمواصفات محددة، خاصة بينما يتم الحصول عليه مع مجتمعه.
لا بد من مساهم فاعلة رؤية وايجابية للمثقفين، كل من موقعه، لإعلاء قيم السلام والتسامح والمساواة والحق والعدل، تلك هي مواصفات التصالح مع النفس وجمال الروح، فمن امتلك سلطة الجمال تبقى روحه نظيفة.
اضف تعليق