أثبتت التجارب أن "مسك العصا من الوسط" لا يمكنه انتاج الوسطية الصحيحة، ولا يكافح الإفراط والتفريط اذا لم نقل أنه يؤجّج أوارها أكثر، لأن من يكون على موقفه وفكره غير السليم، فانه يجد من حقه الإفراط او التفريط بما لديه من افكار، ولا يجد لأحد حقاً في انتقاده ومناقشته فيما هو فيه بدعوى مكافحة التطرّف، وتحديداً "التطرف الديني" منه!
الوسط؛ في كونه حالة يعيشها الانسان، او نقطة يختارها في ميدان العمل، وحتى فكرة في الذهن، في كل الاحوال، هي محببة للنفس، باعثة على الاطمئنان والسلامة في معظم الاحيان، بينما عكس الوسط؛ التطرّف الباعث على القلق والاضطراب والخوف بدعوى الدفاع عن فكرة وموقف، وهو ما يتجسد في الواقع الخارجي في الإفراط والتفريط.
الإفراط يمثل حركة الانسان، بينما التفريط يمثل ميدان هذه الحركة على أرض الواقع، وأبسط مثال من حياتنا اليومية؛ تناول الطعام والشراب، مع اهتمام الكثير بالجوانب الصحية للخضار واللحوم والفاكهة والألبان ومصادر البروتين والفيتامينات والمعادن، وتحت شعار الإحاطة بكل هذه الفوائد الصحية نشنّ هجوماً كاسحاً على موائد عامرة بهذه الأطعمة في مجالس خاصة كأن يكون حفل زفاف، او ما أشبه، وهذا يُسمى بالإفراط في تناول الطعام، أما التفريط فانه يقع على الطعام نفسه عندما يجهّز اصحاب حفل الزفاف –مثلاً- او مناسبات أخرى، كميات هائلة من الطعام تساوي أضعاف مضاعفة للمدعوين، فيكون مصيرها حاويات النفايات، وفيها الرز واللحوم والفاكهة، فنكون قد فرّطنا بنعمة الله علينا.
الآداب الجميلة ترشدنا الى الوسطية النافعة
في الحياة الاجتماعية تصادفنا تصرفات عابرة وسريعة من شأنها انتاج مواقف متطرفة نحو الإفراط او التفريط تعكر صفو الحياة الأسرية والاجتماعية، في القرآن الكريم سورة كاملة بعنوان "التحريم"، إشارة واضحة الى دور سوء الأدب ومجانبة الخلق الكريم في خلق حالة الإفراط والتفريط تحت ضغط الانفعال النفسي، كما حصل مع رسول الله، صلى الله عليه وآله، في قصته مع زوجتيه المعروفتين بتصرفاتهما المؤذية للنبي الأكرم وفق تأكيد معظم المصادر التاريخية والروائية، فنزلت الآية الكريمة في مطلع السورة تخاطب النبي الأكرم: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاةَ أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ}، وقد رأى مفسرون أنها تخصّ قضية مضاجعة الرسول لأمته ماريا القبطية في دار زوجته حفصة بنت عمر بن الخطاب، وما حصل من انزعاجها الشديد وقولها: "يا رسول الله! هذا في يومي؟ وفي داري؟ وعلى فراشي؟! فاستحى النبي، وقال لا أطأهها بعد هذا أبداً"، (تفسير القمّي- المجلد2)، فيما رأى مفسرون آخرون أن القضية تتعلق بتضخم مشاعر الحسد لدى الزوجتين على إحدى زوجات رسول الله لأنه تناول عندها عسلاً، فتآمرا على أن يقولا كلمة واحدة متفق عليها عندما يأتيَهُما بأن "نشمّ فيك رائحة المغافير"، وهي رائحة كريهة عند العرب، فأنكر هذا رسول الله وقال: بل شربت العسل، وهو ما ذهب اليه تفسير الصافي، وتفسير تقريب القرآن الى الاذهان للمرجع الراحل السيد محمد الشيرازي، وفي كل الاحوال، فان محور القضية، توصية النبي الأكرم لهاتين الزوجتين بأن يكتما هذا الخبر، ولا يفشيا السر لأحد، وهو ما لم يلتزما به مطلقاً، وفي القصة تتمة لا تهمنا كثيراً بقدر ما تهمنا العبرة من سوء الأدب ومجانبة الخلق في الحياة الزوجية وكيف أنه تسبب في أن يلجأ الزوج الى التفريط بما أحلّ الله له وفق النداء الإلهي المباشر.
إن التصرف السليم والحكيم في العلاقات الاجتماعية يعكس منظومة أخلاقية متكاملة في الاسلام تضمن للفرد والجماعة الحالة الوسطية البعيدة عن التوتر والاضطراب والقلق، "فمن لطف الله –سبحانه وتعالى- على الأمة الاسلامية، بل على البشرية جمعاء انه بين كل ما يقرب الناس الى الكمال والحق، سواء في القرآن الكريم، أم على لسان الرسول الكريم، أو أئمة أهل البيت، صلوات الله عليهم، لكي يكون الميزان الكامل للأمة الوسط في كل شيء". (خطوات نحو النجاح- آية الله السيد جعفر الشيرازي).
ولا ننسى تصرفات بسيطة لا تثير الاهتمام عند البعض، من شأنها انتاج التطرف نحو الافراط او التفريط، مثل؛ إعداد الموائد في المجالس العامة، والاهتمام بكمية الذبائح وطول الموائد العامرة بالأطعمة والمشروبات، دون الاهتمام بالتأكيدات الوافرة من المعصومين على احترام النعمة، وعدم التبذير، بل في جزئية دقيقة جاءت في حديث لرسول الله، صلى الله عليه وآله: "نحن قوم لا نأكل حتى نجوع، وإذا أكلنا لا نشبع".
الوسطية أم مسك العصا من الوسط؟
هذا ما كان في الميدان الاجتماعي، ويمكن ملاحظة آثار الإفراط والتفريط في المجال العقدي ايضاً، وهو ميدان يتصل ايضاً بسلوك وفكر وثقافة الانسان، مما يحفّز الكثير على الدعوة لمفاهيم مثل "الاعتدال"، أو "الحياد"، بدعوى الابتعاد عن الزوايا الحادة والتورط بنزاعات كلامية او مواقف محرجة مع هذا او ذاك حول فكرة ما، او قضية تاريخية.
للقرآن الكريم كلمته الفاصلة في هذا الشأن في الآية الكريمة: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً}، هذه الوسطية بيّنها المفسرون على أنها في طريقة التعامل مع الدين، وليس في الدين نفسه، ففي عهد نبي الله موسى، عليه السلام، وبعد معجزة انفلاق البحر نصفين وغرق فرعون واندثار حكمه وسلطنته بالكامل، وانتصار موسى وقومه، حصل الانحراف المفاجئ على حين غفلة منهم بأن فرطوا فيما جاء به نبيهم من كرامات انقذتهم من الذل والهوان والموت، وكان بصدد اكتمال الديانة اليهودية بشرائع جديدة من السماء، فاستغلوا غياب نبيهم واستبدلوا التوحيد، بعبادة العجل في القصة المعروفة، كما أن القرآن الكريم يروي لنا كيف أن الافراط تجسد في سلوك المؤمنين بنبي الله عيسى بن مريم عندما اتخذوه إلهاً دون الله الواحد الأحد، لمجرد أنه أحيى الموتى، وجاء بمعاجز مذهلة، كما سلكوا الرهبانية بدلاً من المنظومة القيمية التي جاء بها نبيهم ليبشر بها بني اسرائيل بعهد جديد من الحياة الكريمة.
وعليه؛ لا حياد أو منطقة وسطى في الدين والعقيدة، إما الإيمان او الكفر، إما الحق أو الباطل، وعندما نقرأ الآية الكريمة: {لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ}، علينا عدم التوقف والاستمرار في قراءة الآية الكريمة لتكتمل الصورة لدينا: {قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنْ الغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدْ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لا انفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ}، وقد عبّر سماحة السيد جعفر الشيرازي في مؤلفه المشار اليه الى أن "الأمة الوسط والوسطية هي الحق"، فهي ميزان الاعمال والافكار.
وقد أشار الى هذا أمير المؤمنين، عليه السلام، في جوابه لأحد الاشخاص المشككين بحقانية قتال أصحاب الجمل، قائلاً: "إنك ملبوسٌ عليك! إن دين الله لا يعرف بالرجال بل بآية الحق فأعرف الحق تعرف أهله"، وكانت المحنة في أشدها على المسلمين آنذاك عندما انشقوا صفين لجهلهم مصدر الحق، فأزهقت أرواح الآلاف منهم، وما يزال مسلسل الموت مستمراً في مسيرة الأمة حتى هذا اليوم بسبب ضياعها البوصلة، فصار همّ الجميع تجنب الجدال والنقاش حول أمور الفكر والعقيدة ليأمن على فرصة عمله، وعلى حياته بشكل عام، ربما محاكاة لأصحاب "الوقوف على التلّ أسلم".
أما البعض الآخر لجأ الى طريقة "مسك العصا من الوسط"، فهو يدعو الى "الحوار مع الآخر" –مثلاً- ثم يدعو ايضاً الى "احترام الرأي الآخر"، حتى وإن كان في صف الباطل، فلا بأس من تبادل وجهات النظر والتباحث في الافكار المختلفة ثم يذهب كلٌ الى حال سبيله، ربما تحت شعار "لا غالب ولا مغلوب"، إن جاز التعبير!
لقد أثبتت التجارب أن هذا الخيار لا يمكنه انتاج الوسطية الصحيحة، ولا يكافح الإفراط والتفريط اذا لم نقل أنه يؤجّج أوارها أكثر، لأن من يكون على موقفه وفكره غير السليم، فانه يجد من حقه الإفراط او التفريط بما لديه من افكار وسلوكيات على صعيد المجتمع، ولا يجد لأحد حقاً في انتقاده ومناقشته فيما هو فيه بدعوى مكافحة التطرّف، وتحديداً "التطرف الديني" منه! في حين هو غارقٌ في التطرف دونما شعور منه!



اضف تعليق