إن الاشتغال على الإتيقا داخل النص المسرحي يضع الباحثة أمام اختبار مزدوج: كيف يمكن لمفهوم فلسفي تجريدي، يُفكّر في ما ينبغي أن يكون، أن يتجسد داخل فعل درامي قائم على الصراع والحركة والاحتمال؟ وكيف يمكن للمسرح، بوصفه فناً إنسانياً حسّاساً، أن يحمل عبء الأسئلة الأخلاقية دون أن يتحول إلى خطاب وعظي أو تنظير مباشر...

حين يقترب البحث الأكاديمي من المسرح، لا يعود السؤال مجرد أداة معرفية، بل يتحول إلى فعل درامي بحد ذاته. فالمسرح لا يجابه بالإجابات الجاهزة، بل يُحاور، لأن نصوصه لا تُغلق معناها، وإنما تظل مفتوحة على احتمالات أخلاقية وجمالية تتجدد مع كل قراءة. ومن هذا المنطلق، جاء هذا الحوار مع الباحثة دعاء رعد عبد الله لا بوصفه استكمالاً شكلياً لرسالة علمية، بل بوصفه امتداداً حيّاً لأسئلتها العميقة.

إن الاشتغال على الإتيقا داخل النص المسرحي يضع الباحثة أمام اختبار مزدوج: كيف يمكن لمفهوم فلسفي تجريدي، يُفكّر في “ما ينبغي أن يكون”، أن يتجسد داخل فعل درامي قائم على الصراع والحركة والاحتمال؟ وكيف يمكن للمسرح، بوصفه فناً إنسانياً حسّاساً، أن يحمل عبء الأسئلة الأخلاقية دون أن يتحول إلى خطاب وعظي أو تنظير مباشر؟

في هذه الرسالة، التي تناولت تمظهرات الإتيقا في نصوص صفاء البيلي المسرحية، لم يكن الهدف تتبع الأخلاق بوصفها قيماً جاهزة أو أحكاماً مسبقة، بل رصد لحظات الاختبار، والانكسار، والاختيار، تلك اللحظات التي يُعرّي فيها المسرح هشاشة الإنسان ويضعه وجهاً لوجه أمام مسؤوليته تجاه ذاته والآخر والعالم. ومن هنا، جاء هذا الحوار ليكشف عن المسكوت عنه في المتن البحثي، وليعيد فتح الأسئلة من زاوية تأملية، توازن بين الفلسفة والمسرح، وبين التحليل الأكاديمي والوعي الجمالي.

يتحرك الحوار بين الفلسفة الكلاسيكية والحديثة، بين كانط وميل، وليفيناس، وبين النص المسرحي بوصفه مختبراً أخلاقياً، لا يقدم حلولاً نهائية، بل يزرع الشك الخلاق. كما يلامس تأثير التجربة الشخصية والذاكرة الأولى في تشكيل الوعي الإتيقي للكاتبة، ويقارب علاقة المسرح بالزمن، وبالعلم، وبالإيمان، وبالمرأة، وبالجسد، وبالصمت، بوصفها جميعاً حقولاً أخلاقية مشتبكة.

إن ما يقدمه هذا الحوار مع دعاء رعد عبد الله ليس “إجابات” بقدر ما هو كشف لطبيعة الاشتغال الأتيقي في سرح صفاء البيلي، حيث تتحول القيم إلى أفعال، والاختيارات إلى مآزق، والنهايات إلى أسئلة مفتوحة. وهو بذلك يضع القارئ، كما المسرح دائماً، في موقع الشريك لا المتلقي، وفي مساحة التفكير لا التلقي السلبي، ليؤكد أن الإتيقا في المسرح ليست سلطة تفرض، بل وعي يبنى، وسؤال لا ينتهي.

من هذا الأفق، يبدأ السؤال الأول، ميزتِ في رسالتكِ بين "الأخلاق" كعادات وسلوكيات مجتمعية، وبين "الإتيقا" كفلسفة معيارية أو "بارومتر" يقيس حرارة الأخلاق. كيف واجهتِ صعوبة تطبيق هذا المفهوم الفلسفي المجرد (الإتيقا) على نص مسرحي يعتمد في جوهره على الصراع الدرامي الحركي وليس التنظير الفلسفي؟

في الحقيقة كانت أكبر التحديات التي واجهتها في رسالة الماجستير هي كيفية إسقاط مفهوم (الإتيقا) بوصفه مفهوماً فلسفياً معيارياً يتعامل مع المبادئ الكلية أو الخيرية المُثلى على نص مسرحي يقوم على الحركة والصراع والتجسيد لأعلى التنظير الفلسفي المباشر، فالمسرح بطبيعته فن عملي يترجم الأفكار إلى أفعال، بينما (الإتيقا) تشتغل في إطار تجريدي يتناول ما ينبغي أن يكون، ومن هنا كان التوتر بين مستوى الفكرة المعيارية ومستوى الفعل الدرامي هو نقطة الاشتغال المركزية في بحثي.

لقد حاولت تجاوز هذه المشكلة عبر التعامل مع النص المسرحي بوصفه حاضنه للقيم، وليس مجرد بنية صراعية، بمعنى آخر لم أبحث عن أخلاق جاهزة في النص، بل عن تجليات الإتيقا عبر مواقف شخصيات اختياراتها، نقاط ضعفها وقوتها وحدود حريتها داخل الصراع الدرامي، فكل قرار تتخذه الشخصية هو في جوهرة موقف أتيقي، وكل صراع درامي يحمل في عمقه توتراً بين قيمة وأخرى، أو بين مبدأ ورغبة، أو بين ما هو فردي وما هو جمعي.

كما استندت إلى المنهج التحليلي الوصفي الذي يسمح بقراءة النص المسرحي عبر تتبع بنيته الدرامية ورصد العلاقات بين شخصياته، وتوظيف مواقفها وأفعالها دون اللجوء إلى تأملات تتجاوز حدود النص، فقد أتاح المنهج تحليل المظاهر الأخلاقية بوصفها جزءاً من السلوك الدرامي ذاته، إذ قمت بوصف المواقف التي تتخذها الشخصيات ، ورصد أنماط تفاعلها داخل الصراع وملاحظة كيفية تجسيد القيم من خلال الفعل المسرحي، وهكذا لم أتعامل مع الأتيقا كإطار فلسفي يُفرضْ على النص من الخارج ، بل كتمظهرات يمكن ملاحظتها واستخلاصها من داخل البناء الدرامي نفسه، عبر وصف دقيق للأحداث ، ولغة الحوار، وحركة الشخصية داخل السياق المسرحي.

لقد اعتمدت في ذلك على المنهج التحليلي الوصفي الذي وجدتهَ الأكثر قدرة على التعامل مع هذا التحدي، فهذا المنهج يتيح تفكيك البنية الدرامية وصفاً وتحليلاً ورصد أنماط السلوك، وتوصيف العلاقات بين الشخصيات ومتابعة مسار الأحداث كما صاغته الكاتبة، دون تأويلات تتجاوز ما يتيحه النص نفسه، ومن خلال هذا التوصيف الدقيق يمكن استخلاصي متظهرات الأتيقا كما تتبدى في مواقف الشخصيات، وحدود أفعالها، وخياراتها لحظة الصراع، وما يتولد من قيم مثل الوفاء، المسؤولية، التضحية، مقاومة الظلم أو الانحياز للحقيقة.  

 استعرضتِ آراء فلاسفة كُثر من أفلاطون وأرسطو وصولاً إلى كانط وميل. في نصوص صفاء البيلي، هل وجدتي أن "الإتيقا" تميل أكثر نحو "الواجب الأخلاقي" الصارم (كانط) أم نحو "البرجماتية والمنفعة" (ميل) خاصة في ظل الأزمات التي تطرحها مسرحياتها (مثل أزمة كورونا في مسرحية "فينوس")؟

في أثناء عملي على رسالتي لم ألمس انحيازاً أحادياً باتجاه نموذج فلسفي محدد، لا نحو صرامة الواجب الأخلاقي عن (كانط) ولا نحو البرماجتيه والمنفعة كما عند جون ستيوارت ميل، بل بدا لي أنَ البناء الأتيقي في نصوص البيلي يتأسس على تفاعل ديناميكي بين هذين الاتجاهين يتبدى وفق طبيعة الأزمة الأخلاقية التي يعيشها الفرد داخل النص، فعلى مستوى البنية القيمية تُظهر العديد من الشخصيات ميلاً واضحاً إلى ما يمكن تسميته بـ( الأخلاق المبدئية أو أخلاق الواجب: التمسك بالقيم العليا، احترام القانون واستحضار الفعل الأخلاقي بوصفه قيمة في ذاته لا تقاس بنتائجها ، وهذا ما يجعلها محسوسة حين تواجه الشخصيات اختباراً أخلاقياً يفرض عليها التضحية برغباتها أو مصالحها الخاصة من أجل الحفاظ على جوهر الفعل الصحيح، غير أن هذه البنية لا تبقى ثابته أو مغلقة ففي النصوص التي ترتبط بأزمات إنسانية عميقة، مثل أزمة كورونا كما تمظهرات في مسرحية (( فينوس)) تظهر لنا صورة مختلفة للأتيقا، صورة تميل إلى الواقعية الأخلاقية التي تقارب الفعل تبعاً لنتائجه وتأثيره في الجماعة ، هنا يبرز أثر (ميل) بوضوح فالأخلاق تتحول إلى ممارسة عملية تهدف إلى تحقيق أكبر قدر من الخير وتقليل أكبر قدر من الضرر خصوصاً في سياقات يكون فيها القرار الأخلاقي مرهوناً بسلامة المجتمع أو بقاء الأنسان، إن هذا التداخل بين الواجب والمنفعة ليس تناقضاً في نصوص البيلي، بل على العكس هو جوهر رؤيتها الأتيقية، فالأخلاق ليست قالباً جاهزاً بل هي استجابة حية لمقتضيات الأزمة، ومحاولة إيجاد توازن بين المبدأ والتواضع.

لذلك يمكنني القول إِن الأتيقا في هذهِ النصوص هي أتيقا إنسانية تبحث دائماً عن صيغة تحفظ كرامة الفرد من جهة، وتراعي المصلحة العامة من جهة أخرى، وبهذا المعنى فإن نصوص البيلي لا تعيد إنتاج المفاهيم الفلسفية كما وردت عند (كانط) أو (ميل) بل تعيد صياغتها داخل سياق مسرحي معاصر يجعل من الأزمة سواء كانت وجودية، اجتماعية أو صحية مختبراً حياً لاختبار الفعل الاخلاقي وتبيان حدوده وامكاناته.  

 أشرتِ إلى فلسفة "إيمانويل ليفيناس" ومفهوم "الوجه" والمسؤولية تجاه الآخر. كيف تجسد هذا المفهوم في نصوص البيلي؟ هل الشخصيات تعاني من "أزمة اعتراف" بالآخر، أم أن صراعها هو صراع داخلي مع الذات بالدرجة الأولى؟

حين أشرت إلى فلسفة ايمانويل ليفناس فأنني استدعيت بالأساس فكرته الجوهرية حول الوجه بوصفه لحظة الانكشاف الأخلاقي التي يبدأ عندها معنى المسؤولية تجاه الآخر، فالوجه عند ليفناس ليس مظهراً حسياً، بل هو نداء ومطالبة وعبور إلى علاقة لا تقوم على التماثل بل على الاعتراف، وعندما طبقت هذا الإطار المفاهيمي على نصوص صفاء البيلي المسرحية وجدتُ أن مسرح البيلي يقوم في عمقه على توتر الوعي الذاتي أمام حضور الآخر، سواء كان هذا الآخر فرداً او مجتمعاً أو سلطة أو حتى فكرة.

إن الشخصيات في نصوص البيلي على اختلاف مسرحياتها تعيش على مواجهة هذا الوجه، بعضها يعجز عن تلقي النداء الأخلاقي للآخر وبعضها يهرب منه، وبعضها ينهار أمامه لأنه يعري هشاشتها، وهذا ما يجعل الأزمة الأخلاقية في هذهِ النصوص ليست مجرد صراع خارجي، بل صراعاً مزدوجاً، فمن جهة هناك أزمة اعتراف بالآخر، ومن جهة أخرى هناك أزمة داخلية تتعلق بعجز الذات عن تحمل وزن المسؤولية التي يكشفها الوجه.

ففي (جنة وهنا) مثلاً تمثل شخصية جنة مثالاً واضحاً للذات التي لا تستطيع حتى رؤية الآخر لأنها غارقة في صراعها الداخلي، وفي نصوص أخرى(نوبة رجوع لجليلة بنت مرة) نجد أن علاقة جليلة بالآخر سواء الماضي، الزوج أو السياق القبلي) تكشف صداماً بين النداء الأخلاقي الذي يطالبها بالاستجابة وبين تاريخ طويل من الجروح يجعل استقبال الوجه أمراً شديد الصعوبة، أما في (فينوس) في زمن الوباء، فيظهر الآخر بوصفه كائناً هشاً يطالب بالحماية ، فتغدو المسؤولية مضاعفة ويصبح سؤال الاعتراف بالآخر مرتبطاً بسؤال الوجود نفسه، وهذا كله يتناغم مع رؤية ( ليفناس) التي تجعل المسؤولية سابقة على الحرية، أي أن الانسان لا يختار مواجهة الآخر بل يجد نفسه مسؤولاً عنه قبل أن يحدد موقفه، وعليه يمكن القول إن مسرح صفاء البيلي لا يقدم أزمة اعتراف بالآخر فقط ، ويجعل الصراع داخلياً محضاً، بل يدمج بين الأثنين في بنية واحدة، الشخصيات لا ترفض الآخر لأنه غريب، بل لأنها لم تتصالح مع ذواتها بعد، ولأن الوجه بمعناه الليفناسي يكشف النقطة العميقة التي يلتقي فيها الألم بالمسؤولية، لذلك فان علاقة الذات بالآخر في نصوص البيلي هي علاقة امتحان مستمر حيث يرغم الفرد على النظر إلى الآخر بوصفه مرآة لأزمته الذاتية، وفي الوقت نفسه ككائن يفرض عليه مسؤولية لا يمكن التهرب منها.

ولهذا يمكنني أن أؤكد ان فلسفة (ليفناس) لم تكن مجرد إطار نظري في الرسالة بل كانت عدسة مكنتني من رؤية ان نصوص صفاء البيلي تحول الوجه إلى مساحة درامية تتصارع فيها الذات بين إنكار الآخر والاعتراف به، وبين الانغلاق على ذاتها والانفتاح على مسؤولية تتجاوز حدودها.

ذكرتِ في المبحث الثالث أن "الجد" كان له دور كبير في تشكيل الوعي الإتيقي لصفاء البيلي (رفض وصف الطماطم بالدم مثلاً). إلى أي مدى ترين أن هذه "التربية الصوفية/الجمالية" المبكرة قد جعلت مسرح البيلي "مسرحاً مثالياً" يبتعد عن قسوة الواقعية المفرطة، أم أنها وازنت بين الاثنين؟

أرى أن تأثير الجد في تكوين الوعي الأتيقي لدى صفاء البيلي، فقد ركزت على تلك اللحظة التربوية المبكرة التي يتجلى فيها الحس الصوفي والجمالي، مثل رفضه وصف اللون الأحمر كلون الطماطم بالدم، لا بوصفها واقعة عابرة، بل بوصفها تأسيساً لبنية أخلاقية عميقة ترتبط بفكرة تنزيه الانسان والكائنات والأشياء عن الامتهان والتشويه، هذا النمط من التربية يقدم الحس الجمالي كجزء من المسؤولية الأخلاقية وهو ما يفسر حضور النزعة الأتيقية الناعمة في مسرح البيلي. لكن هذا لا يعني ان المسرح يغرق في المثالية أو يبتعد عن الواقع على العكس تماماً مما وجدته في تحليل النصوص ان التربية الصوفية منحت البيلي قدرة خاصة على رؤية الواقع دون السقوط في ابتذاله، أي أننا لا نجد في مسرحه قسوة واقعية فجة ، أو توظيفاً مباشراً للصدمات ، بل نجد معالجة إنسانية تحافظ على كرامة الشخصيات في أكثر اللحظات ألماً وتسعى الى الكشف عن المعنى العميق للأزمة، لا الاكتفاء بعرض أعراضها الخارجية فالمسرح عندما يوازن بين الرؤية الروحية التي ورثتها عن جدها وبين الوعي الواقعي الذي تنقصه الخبرة المسرحية فهي لا تحمل الواقع الى حد المثالية ولكنها أيضا لا تقدم القسوة بوصفها غاية جمالية، هناك دائماً مساحة للتأمل واعادة قراءة الالم، والنظر الى الانسان من زاوية تتجاوز المادي والراهن ، ولهذا نرى ان نصوصها تظهر المأساة ولكن من خلال لغة راقية ورموز، وصور جمالية تخفف من غلظة الحدث دون ان تلغيه.

ويمكن القول أن التربية الصوفية المبكرة منحت صفاء البيلي مناعة ضد العنف الرمزي، فصارت تبتعد عن الصور الحادة التي تهدد الجمال.

 الكاتبة تعود للتاريخ (جليلة بنت مرة في "نوبة رجوع") وتذهب للخيال العلمي (مسرحية "فينوس"). برأيكِ كباحثة، هل "الإتيقا" في نصوص البيلي "مطلقة" وثابتة عبر الزمن، أم أنها "نسبية" تتغير بتغير القالب تاريخي vs مستقبلي؟

في تقديري كباحثة في الأتيقا المسرحية لا يمكن تصنيف الأتيقا في نصوص صفاء البيلي تصنيفاً حدياً بوصفها مطلقة ثابتة أو نسبية متحولة، فالأتيقا عند البيلي تقوم على بنية مزدوجة جذور قيمية راسخه من جهة، وتمظهرات زمنية متحولة من جهة أخرى، فالقيم الكبرى مثل الحرية، والوفاء، وحفظ الكرامة الانسانية ونبذ الظلم، وهي قيم حاضرة في جميع نصوصها تبدو ثابته من حيث جوهرها، لكنها لا تقدم بالكيفية نفسها بل تعاد صياغتها ضمن قوالب درامية متباينة تبعاً للسياق التاريخي أو المستقبلي الذي تتحرك فيه الشخصيات.

عندما تعود البيلي الى التاريخ في نوبة رجوع لجليله بنت مرة، فهي لا تسترجع الماضي بوصفه زمناً منقطعاً بل بوصفه مختبراً لا متحان القيم الانسانية في لحظات صراع أصيل وحين تنتقل الى فضاء الخيال العلمي في فينوس فأنها لا تهرب الى المستقبل، بل تخلق بيئة افتراضية تكشف من خلالها عن الوجه الآخر لتلك القيم ذاتها حين توضع تحت ضغط التحول العلمي والتكنولوجي وهكذا فالزمن كان ماضيا كان أم مستقبلاً ليس سوى إطار يكشف طبقات جديدة من المعنى الأخلاقي.

لذلك يمكن القول إن الأتيقا في مسرح (البيلي) تمتلك ثبات المبادئ ومرونة التجسيد فهي لا تغير القيم بل تغير زوايا النظر اليها، وهذا ما يجعل تجربتها المسرحية تجربة حية متجددة، إذ تبرهن أن القيمة الأخلاقية تظل كونية في أصلها، لكنها تتسع باستمرار لتستوعب تحولات الزمن، وتعيد قراءة الانسان في كل عصر ومن هنا تتشكل قدرة البيلي على تحقيق توازن دقيق بين الثابت القيمي والابتكار الفني دون الوقوع في مثالية جامدة أو واقعية قاسية بل عبر رؤيا جمالية ترى الأخلاق جزءا من الوعي الانساني العابر للأزمة.    

 ذكرتِ أن "جليلة" تعيش صراعاً بين الوفاء للزوج والواجب تجاه الأخ. هل ترين أن النص قدم "حلاً إتيقياً" لهذا الصراع، أم أنه ترك المتلقي في حيرة أخلاقية مقصودة؟ وهل يمكن اعتبار "جساس" في هذا النص ضحية لـ "ضرورة الواقع" مقابل "مثالية" كليب؟

في قراءتي لمسرحية نوبة رجوع لجليلة بنت مرة لا أرى أن النص يقدم حلاً أتيقياً جاهزاً للصراع الذي تعيشه(جليلة) بين الوفاء للزوج والولاء للأخ ، بقدر ما يفتح الباب أمام المتلقي لقراءة تعددية أخلاقية مقصودة، فالصراع الذي تتمحور حوله جليلة هو صراع جذري بين واجبين كلاهما يحمل شرعنة أخلاقية: واجب الوفاء لكليب بوصفه زوجاً يمثل قيمة العهد والميثاق، وواجب الانتماء لجساس بوصفه الأخ الذي ينتمي الى رابطة الدم والقبيلة، هذا التوتر المزدوج يجعل جليلة في مساحة مطلقة لا يمكن فيها لأي خيار أن يكون بريئاً أو كاملاً.

ومن خلال المنهج التحليلي الوصفي الذي اعتمدته في رسالتي يتضح أن البيلي لا تسعى الى توجيه المتلقي نحو موقف أخلاقي واحد، بل تؤسس ما يمكن تسميه بـ (الحيرة الأتيقية المنتجة)، أي الحيرة التي تدفع المتلقي إلى اختيار القيم بدل تلقيها كمسلمات، والقرار الأخلاقي في النص ليس مشروعاً منتهياً، بل مفتوح على تأويلات تتعدد بتعدد زوايا نظر الجمهور.

أما فيما يخص (جساس وكليب) فلا يمكن فهمهما بوصفهما ثنائية خير وشر بالمعنى التقليدي، فالنص يقدم جساس بوصفه أبناً لضرورة الواقع، يتحرك ضمن منظومة قيم قبليه وضغوط اجتماعية تملي عليه ثأراً يراه واجباً لا اختياراً، وعلى الطرف المقابل يظهر كليب بوصفه مثالاً للهيبة والسلطة والمثالية التي تصل حد الصلابة، ومن هنا لا يعود جساس قاتلاً لمحض رغبة في العدوان بل فاعلاً محاصراً بمنطق الجماعة، كما لا يعود كليب رمزاً مثالياً معلقاً فوق الواقع، بل جزءاً من شبكة معقدة من الاعراف التي صنعت المأساة.

بهذا المعنى فأن النص لا يبحث عن إدانة أو تبرئة بقدر ما يسلط الضوء على أن الأخلاق لا تفهم خارج شروطها الاجتماعية والتاريخية وجليلة في قلب هذا الصراع ليس شاهدة محايدة، بل كاشفة لحدود القيمة حين تُختبر في لحظة مأساوية ولذلك يمكن القول إن البيلي تعمدت أن تترك أخلاقيات الموقف مفتوحة ليكمل المتلقي الحكم، وهذا من صميم الأتيقا المسرحية التي لا تقدم دروساً جاهزة بل تفتح أسئلة حول معنى الوفاء والعدالة والانتماء.

لقد حولتِ "السرير" من قطعة أثاث إلى "كائن حي" وشاهد على الألم (الختان) والزواج والموت. سؤالي هنا: هل تمثل "جنة" في تمردها على السرير "إتيقا التحرر" الحديثة، أم أنها تمارس نوعاً من "العقوق" للذاكرة الجمعية؟ وكيف تقيمين "الصمت" الذي مارسته الأم "هنا"؟ هل هو صمت العجز أم صمت الحكمة الإتيقية؟

في قراءتي لمسرحية جنة وهنا، وتحويل السرير من قطعة أثاث جامدة إلى كائن حي وشاهد على التحولات الكبرى في حياة جنة من الختان الى الزواج وصولاً إلى الموت، ليس مجرد تقنية جمالية بل هو تأسيس لفضاء أتيقي يجعل من الجسد والذاكرة عنصرين متداخلين فالسرير هنا يصبح مسرحاً لمراكمة الألم الأنثوي، وبالتالي تتمرد جنة عليه، فإنها لا تتمرد على مجرد شيء مادي، بل تتمرد على تأريخ من القهر الذي حُفر داخل الذاكرة الجمعية للنساء، ومن هذا المنظور فأن تمردها ليس قطعاً مع الذاكرة بقدر ما هو محاولة لإعادة امتلاكها وتحررها من سلطتها القسرية.

لذلك لا يمكن عَّد فعل جنة نوعاً من العقوق للذاكرة الجماعية بل قراءة حداثية تعيد مساءلة تلك الذاكرة نفسها: أي جزء منها يمثل ذاكرة الحياة؟ وأي جزء يمثل ذاكرة العنف؟ ان البيلي تجعل جنة تواجه هذا التاريخ مواجهة جريئة، لا بوصفها رافضة للتراث بل باحثة عن مساحة أتيقية جديدة تعيد فيها تعريف الجسد والحرية والاختيار.

أما صمت الأم فهو من أكثر علامات النص تعقيداً، فمن خلال المنهج التحليلي الوصفي لا يظهر صمت الأم بوصفه صمت عجز فقط ، رغم ان العجز حاضر بقوة عجز نابع من تربية اجتماعية قائمة على قبول الألم بوصفه جزءاً من مسار الأنثى، لكنه في الوقت نفسه صمت ينطوي على حكمة أتيقية، حكمة مُتعبة لكنها واعية، إذ تدرك الأم حجم الألم الذي مَر عليها وعلى أبنتها وتعي أن الكلام في بعض اللحظات قد يعيد إنتاج الجرح بدل تضميده، وبهذا يصبح الصمت مساحة مزدوجة صمتاً يعكس هشاشة الأم أمام منظومة كبرى من الموروثات وصمتاً يحاول أن يحمي جنة من إعادة تفعيل الألم ، والبيلي تتعمد الابقاء على هذا الالتباس، لأن الأتيقا في المسرح كما يتضح عبر تحليل النص لا تقدم احكاماً قطعية، بل تجعل الصراع القيمي مفتوحاً على أسئلة متى يكون الصمت خضوعاً؟

ومتى يتحول إلى شكل من أشكال الحكمة؟ وجنة في تمردها والأم في صمتها تشكلان معاً خريطة أخلاقية متشابكة تعكس محاولة الأنثى للبحث عن صوتها وسط طبقات من الذاكرة والموروث.

في تحليل مسرحية "فينوس"، طرحتِ تساؤلاً حول دور العلم مقابل الإيمان. العلماء ظهروا بملابس رواد فضاء معزولين، بينما الشيخ سليم لجأ للجبل، هل النص ينحاز "إتيقياً" إلى الحل الروحي (السماء) كخلاص نهائي بعد فشل "إتيقا العلم" والحلول الأرضية؟

في تحليلي لمسرحية (فينوس) لا أرى أن النص يقدم انحيازاً أتيقياً مباشراً للحل الروحي مقابل فشل العلم أو الحلول الأرضية، بقدر ما يطرح سؤلاً وجودياً حول حدود كل منهما عندما تُختبرانْ في لحظة انهيار كوني، فظهور العلماء بملابس رواد الفضاء ومعزولين داخل كبسولتهم لا يشير بالضرورة إلى فشل العلم، بل إلى انفصال العقل العلمي عن الواقع الانساني، إذ يصبح العلم محاصراً داخل أدواته غير قادر على التواصل مع مخاوف البشر أو فهم هشاشتهم وفي المقابل لجوء الشيخ سليم إلى الجبل لا يٌقرأ باعتباره انتصاراً أو خلاصاً دينياً جاهزاً، بل هو عوده إلى فضاء تأملي يحاول من خلاله الانسان استعادة معنى روحي ضائع وسط ضجيج التكنولوجيا.

من هذا المنظور لا ينحاز النص انحيازاً تقابلياً، علم ٌفاشل مقابل إيمان ناجح، بل يقدم نقداً مزدوجاً لطرفين انقطعا عند الانسان العلم الذي فقد صلته بالقيم، والايمان الذي فقد صلته بالفعل، وهكذا فإن الحل الروحي لا يظهر كبديل مطلق، ولا السماء كخلاص نهائي، بل يظهر كل منهما كمستوى من مستويات بحث الإنسان عن معنى تتجاوز به الكارثة.

إن البيلي عبرَ هذا البناء الدرامي لا تمنح الإجابة بل تَضع المتْلقي أمام سؤال أتيقي ماذا يحدث عندما يبتعد العلم عن القيم؟ وحين يتجمد الإيمان في رمزية غير فاعلة؟ بذلك فان الدلالة الاتيقية للنص ليست في ترجيح كفة الروح على كفة العلم، بل في كشف هشاشة الإنسان حين يفقد التوازن بينهما، فالعلم حين ينفصل على الأخلاق يتحول إلى آلية عمياء، والإيمان حين ينفصل عن الحياة يصبح عزلة لا تؤسس للخلاص، وهذا ما يجعل (فينوس) نصاً لا يقدم خلاصاً نهائياً ، بل يقترح ان النجاة إن كانت ممكنة لا تأتي من طرف واحد، بل من مصلحة بين العقل والروح ، وبين المعرفة والمسؤولية الأخلاقية ، لذلك وفي ضوء ما عرضته في رسالتي، يمكن القول إن المسرحية تقيم مساحة تأملية حول العلاقة بين العلم والايمان، لا تنحاز انحيازاً مغلقاً وإنما تفتح سؤلاً أتيقياً حول الحاجة إلى إعادة بناء منظومة قيمية تحفظ للعلم إنسانيته، والإيمان فعاليته وهذا الانفتاح التأملي هو ما يمنح النص قوته، ويجعل المُتلقي شريكاً في إنتاج الإجابة الأخلاقية بدلاً من تلقيها جاهزة.

استنتجتِ أن المسرح وسيلة للارتقاء بالذوق العام وتعزيز الفهم الإتيقي، في ظل سيولة القيم الحالية (Post-truth era)، هل لا يزال للمسرح القدرة على فرض "سلطة إتيقية"، أم أن دوره تراجع لمجرد "التوثيق" الجمالي للأزمة الأخلاقية؟

في تقديري البحثي لا يمكن اختزال وظيفة المسرح اليوم بين فرض سلطة أتيقية صارمة وبين الاكتفاء بتوثيق الأزمة الاخلاقية جمالياً، فالمسرح بطبيعته ليس سلطة ملزمة بقدر ما هو فضاء نقدي يعيد تشكيل الحس الأخلاقي لدى المتلقي من خلال تقديم نماذج وصراعات وأسئلة تمس الانسان في جوهره، وفي ظل ما نسميه (بسيولة القيم) أو تشظي المرجعيات الأخلاقية المعاصرة تزداد أهمية المسرح، لا بوصفه محفزاً للتفكير الأخلاقي ومولداً للأسئلة لا يملك المتلقي ترف تجاهلها.

 من هنا أرى ان للمسرح اليوم القدرة على التأثير الأتيقي بسلطة الالزام، بل بسلطة السؤال، فهو يفرض معياراً أخلاقياً محدداً، لكنه يضع المتلقي في مواجهة مواقف حدودية يختبر فيها ما يُسمى بالأتيقا الحية، أي الاخلاق حين تكون تحت ضغط الصراع والاحتمال، لا في شكلها النظري، وهذا الدور يتوافق مع طبيعة المسرح الحديثة التي تبتعد عن الخطاب المباشر نحو خطاب يفتح مناطق الرماد الأخلاقي ويعرض على التأمل.

وفي رسالتي بينتُ أن المسرح خصوصاً عند صفاء البيلي لا يعمل كمجرد تأريخ جمالي للقيم، بل يقدم اشتغالاً تراجيدياً يفضح الثغرات ويختبر حدود العدالة والوفاء والحرية والوعي ضمن سياقات اجتماعية ونفسية متغيرة، هذا النوع من المسرح لا يتراجع، بل يستعيد أهميته بوصفه منبراً لإعادة تكوين الذائقة الأخلاقية عبر الفن، وليس عبر الوعظ.

وعليه فليس صحيحاً ان دور المسرح قد تراجع، بل يمكن القول انه قد تغير: من سلطة على المتلقي إلى دعوة لمشاركته من تحديد الاجابة إلى صناعة السؤال... ومن فرض نموذج أخلاقي إلى تعرية الواقع وفتح المجال لإعادة بناء النموذج، وهذا التحول في رأيي ينسجم مع طبيعة العصر ومع الاحتياجات الأتيقية للإنسان المعاصر الذي لم يعد يبحث عن إجابة جاهزة بل عن مساحات للفهم وإعادة المعنى.

أشرتِ في مقدمة الرسالة إلى الربط القرآني بين العقل والقلب (لهم قلوب لا يفقهون بها). بعد دراستكِ لنصوص البيلي، هل المحرك الأساسي للشخصيات كان "الحسابات العقلية" (المنطق) أم "البصيرة القلبية" (الوجدان)؟ وأيهما انتصر في النهايات الدرامية؟

في مقدمة رسالتي عندما ربطت الآية القرآنية {لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا} وبين البناء الأتيقي في نصوص صفاء البيلي، كان هدفي الاشارة إلى الوعي الانساني لا يختزل في العقل الحسابي وحده ولا في العاطفة المجردة بل في منطقة ثالثة تجمع بينهما هي البصيرة.

  وعبر تحليل نصوص البيلي الثلاثة (نوبة رجوع لجليلة بنت مره – جنة وهنا – فينوس)، اتضح لي أن الشخصيات لا تتحرك وفق منطق عقلي خالص ولا وفق انفعال وجداني مطلق، وانما وفق جدلية مستمرة بين الحساب العقلاني وبين الوجدان القلبي.

فجليلة في نوبة رجوع تعيش صراع العقل الذي يطالب بالتوازن القبلي والسياسي، مقابل القلب الذي يتمزق بين الزوج والأخ، وهنا في جنة وهنا تدفع الى مواجهة ذاكرة الألم بالقلب أولاً ثم بالعقل الذي يعيد تنظيم التجربة، وفي فينوس ينفصل العلماء بالعقل المحض، بينما يلوذ الشيخ سليم بالبصيرة التي تحاول فهم معنى الكارثة خارج المعادلات العلمية، وفي جميع هذه الحالات يتأخر انتصار العقل الحسابي لأن البيلي تقدم الانسان في لحظات وجودية، حيث يصبح القلب هو بداية الفهم الأولى.

لكن من المهم القول أن البيلي لا تمجد العاطفة على حساب العقل، بل تجعل البصيرة هي تفاعل العقل والقلب هي المحرك الأتيقي الحقيقي، فالشخصيات التي اعتمدت العقل وحده عاشت عزلة أو عجزاً (كما في العلماء في فينوس)، والشخصيات التي اعتمدت الوجدان وحده دخلت في صراعات مؤلمة، أما البصيرة وهي منطقة التوازن الأخلاقي فهي التي تكشف الحقيقة وان لم تمنح خلاصاً نهائياً.

وفي النهايات الدرامية لنصوص صفاء البيلي لا ينتصر العقل ولا القلب بالمعنى المعياري، بل تنتصر البصيرة بوصفها لحظة الوعي الأعمق، الوعي الذي يدرك حدود العقل وحدود الوجدان معاً، وهذا ما يجعل أتيقا البيلي أقرب إلى أتيقا الكشف والتساؤل لا أتيقا الحسم، ولذلك فان النهايات عندما لا تغلق المسار الأخلاقي بل تفتحه وتترك المتلقي أمام سؤال كيف يمكن للإنسان أن يرى العالم بقلب يعقل، وعقل يشعر؟

لو طلب منكِ إعادة كتابة نهاية إحدى المسرحيات الثلاث (نوبة رجوع، السرير، فينوس) بناءً على رؤيتكِ الخاصة لمفهوم "الإتيقا" اليوم، أي مسرحية تختارين وكيف ستكون النهاية؟

لو كان علّي إعادة كتابة نهاية إحدى المسرحيات الثلاث (نوبة رجوع بنت مرة – جنة وهنا- فينوس) وفق رؤيتي الخاصة لمفهوم الأتيقا اليوم، فسأختار مسرحية فينوس والسبب أن فينوس هي الأكثر انفتاحاً على مستقبل الانسان وأسئلته الوجودية، وهي النص الذي يشتبك مع مفهومي العلم والايمان بطريقة تعكس أزمة العصر الراهن: التكنولوجيا التي تتسارع بلا مرجعيات قيميه، والروح التي تبحث عن معنى وسط عالم يتغير بسرعة تفوق قدرة الانسان على استيعابه.

لو أعدت كتابة النهاية، فلن أجعل الخلاص نهائياً أو معلقاً في السماء وحدها، كما لن أدفع باتجاه انتصار العلم بوصفه الخيار الأكثر عقلانية، بل سأجعل النهاية تُبرز ما يمكن تسميته بـ (التصالح الأتيقي) بين العقل والروح.

أتصور نهاية فيها العلماء وقد خلعوا خوذهم العازلة في لحظة اعتراف بأن أدواتهم وحدها لم تعد كافية لفهم المأساة وفي المقابل يظهر الشيخ سليم وقد من الجبل لا هارباً من العالم بل عائداً إليه ليشارك في إعادة بنائه، وبذلك تتشكل لحظة إنسانية مشتركة تُفتح فيها إمكانية الخلاص على أرض الواقع لا في الفضاء الخارجي ولا في العزلة الروحية.

هذهِ النهاية التي اطرحها لا تهدف تعديل رؤية البيلي بل الى استثمار الفضاء التأملي الذي فتحته المسرحية فالأتيقا اليوم في ظل سيولة القيم وسرعة التحولات بحاجة إلى خطاب يحرر الانسان من ثنائية (العقل ضد القلب) و(العلم ضد الايمان)، ويطرح بدلاً عنها أفقاً ثالثاً أفق البصيرة الأخلاقية التي تعترف بنقص الانسان، لكنها تمنحه القدرة على ترميم العالم.

إن جعل النهايات تشاركية بدل أن تكون خلاصيه فردية، وهو ما أراه امتداداً للأتيقا المعاصرة التي تبحث عن معنى جماعي بدلاً عن المعنى المنعزل.

أما بالنسبة للمسرحيتين الأخريين (نوبة رجوع-جنة وهنا)، فأنا أرى ان نهايتيهما تحمل بالأساس وظيفية تراجيدية مقصودة، لا يمكن استبدالها بسهولة دون الاخلال بالمعيار الأخلاقي للنص، فجليلة لا يمكن ان تنجو من صراعها الوجودي إلا بالاعتراف بحدود الانسان، وهنا لا يمكن أن تنتهي رحلة الألم دون الصمت المفتوح الذي يترك المتلقي في مساحة الوعي، أما فينوس فبسبب طبيعتها المستقبلية، تمنح مساحة أَوسع لأعاده تخيل المصير.

لذا سأختار إعادة نهاية (فينوس) فقط، عبر تحويل الانقسام الحاد بين الشخصيات إلى لحظة التقاء إنساني دون إلغاء المأساة، وإنما تحويلها من كارثة مغلقة إلى أفق أخلاقي مفتوح، لأن الأتيقا اليوم كما أحاول أن أقدمها في رسالتي ليست حكماً نهائياً بل اقتراحاً مستمراً لطرق مختلفة يمكن للإنسان فيها أن يرى ذاته والعالم ضمن مشروع أخلاقي مشترك.    

في نهاية هذا الحوار، لا يسعنا إلا أن نتقدم بالشكر العميق للباحثة دعاء رعد عبد الله، على جهودها المتميزة في فتح نافذة جديدة لفهم الإتيقا في المسرح المعاصر، وعلى قدرتها على الجمع بين التحليل الأكاديمي الدقيق والرؤية الجمالية المتعمقة. لقد أضفتِ، من خلال رسالتكِ، بعداً تأملياً ووجدانيًا على نصوص صفاء البيلي، وجعلتِ القارئ والمتلقي أمام تجربة معرفية وأخلاقية غنية، مليئة بالأسئلة التي تثير التفكير وتفتح الآفاق أمام احتمالات جديدة للفعل المسرحي والإتيقي.

شكراً لكِ على هذا الإسهام القيم، وعلى رحلتكِ البحثية التي تبرز أن المسرح ليس مجرد عرض للوقائع، بل مختبر حي للوعي، والقيم، والبصيرة الأخلاقية.

اضف تعليق