واحدة من أكثر المشكلات التي تهدد رسالة الإنسان بصورة عامة والشباب على وجه الخصوص هي حالة الهوس التي أصبحت ظاهرة في مجتمعنا العربي الإسلامي الذي هو ربما أكثر من المجتمعات الأخرى على اعتبار أن الكثير من الأشياء حلت عليهم حديثًا وبالتالي أصبح التعامل معه بإفراط مما يؤثر على جوانب مهمة في شخصيتهم...

مرحلة الشباب من أجمل مراحل الإنسان وأكثرها إنتاجية، وفيها يُفترض أن يحقق الفرد بعض أهدافه ويضع قدميه على جادة تحقيق باقي الأهداف تباعًا، وحين يخفق الشباب في وضع أهداف حياتية لهم والسعي في هذه المرحلة فإنهم سيفوتون على أنفسهم الكثير من الفرص الحياتية، لكن الإدراك لهذه الحقيقة يخفى على الكثير من شبابنا للأسف فيغوصون في عُباب عوالم خيالية مُرهقة لهم.

واحدة من أكثر المشكلات التي تهدد رسالة الإنسان بصورة عامة والشباب على وجه الخصوص هي حالة الهوس التي أصبحت ظاهرة في مجتمعنا العربي الإسلامي الذي هو ربما أكثر من المجتمعات الأخرى على اعتبار أن الكثير من الأشياء حلت عليهم حديثًا وبالتالي أصبح التعامل معه بإفراط مما يؤثر على جوانب مهمة في شخصيتهم ومنها فقدان التوازن الذي يؤدي بدوره إلى انخفاض مستويات الصحة النفسية التي لا تقل أهمية عن الصحة الجسمانية بل قد تتفوق عليها في أهمية الحفاظ عليها.

يُعرَّف الهوس على أنه: "حالة يتعرض فيها الشخص لتغيير في السلوك يؤثر تأثيرًا كبيرًا على أدائه، ويشير الهوس إلى حالة من المزاج المرتفع أو العصبي بشكل غير طبيعي ومستمر مع تقلب في المزاج، وغالبًا ما يرافقه هياج أو فرط نشاط أو إفراط في التفاؤل أو شعور بالعظمة أو تشتت وغيرها من الأعراض".

يتفق الشباب رغم اختلافات مشاربهم وأجناسهم وتوجهاتهم الفكرية والاجتماعية على سلوكيات هذه الظاهرة المرضية، حيث يعتقدون أنها حاجات إنسانية يحتاجونها ويعملون من أجلها وليس فيها نوع من التهور أو الاندفاع اللامعقول، وبذا هم يختلقون الحجج للاستمرار في القيام بسلوكياتهم ليواجهوا الانتقاد الاجتماعي الموجه لهم من محيطهم الاجتماعي.

بينما يتفق المختصون في علم النفس والتربية وعلم الاجتماع على أن الهوس هو ما يدمر طموحات الشباب ويقودهم للفشل، يُعتبر الهوس ظاهرة خطيرة تسيطر على عقول الشباب وتجعلهم يتخلون عن العمل الجاد لمصلحة أحلام الكسب السهل التي تنتهي بالإفلاس والفشل في الواقع، وما أكثر الذين عصفت بهم هذه الرياح العاتية فألقتهم في وديان الضياع والحيرة والتفاهة.

المثير للجدل أن أغلب الشباب المهووسين هم من طبقة العاملين بمهن وصنائع بسيطة، إذ يقتل نفسه أسبوعيًا في ساعات العمل الطويلة ليؤمن قوت يومه، مما ولد لديهم قلقًا مستمرًا وهوسًا غريبًا بأشياء تحتاج إلى الكثير من المال والوقت لتحقيقها وبالتالي يبقى يدور في دوامة من القلق والإحباط حين لا تأتي مساعيه أُكُلَها لجلب حاجة أو الحصول على أمر يمدّه بالنتائج التي يتوقعها.

كما أن أغلب المهووسين أو جميعهم وفي سبيل تحقيق ما يريد يُقصِّر بحق عائلته، فهو مستعد لشراء ساعة بمبلغ كبير جدًا بينما يحرم زوجته وأطفاله من أبسط حقوقهم، أو أنه يشتري سيارة فارهة وغالية الثمن لكنه لا يصطحب عائلته فيها إلى مكان ما لكونه لم يشتريها بالأصل لتقدم له خدمة التنقل بل يريد أن يراه الناس بها كجزء من سطوة المظاهر التي باتت تعطي مؤشرات مغلوطة للترف.

ما هي ضروب الهوس لدى الشباب؟

تسيطر على الإنسان المعاصر الكثير من ضروب الهوس وتبعده عن استقراره النفسي وتقوض مساحة راحته ومن أهم هذه الضروب هي:

1. هوس الثراء: الذي يجعل الشباب المهووسين به يسلكون طرقًا وعرة في سبيل الوصول إلى حالة من الثراء ليس طلبًا للراحة أو مساعدة الأهل أو الإنفاق على من يستحق بل طلبًا للتميز والظهور بمظهر مختلف عن الآخرين تاركين خلفهم كل الاعتبارات الأخرى.

وما يجب على الإنسان أن يعمل على توفير ما يجعله يعيش بمستوى العيش الكريم دون الحاجة إلى الناس، فحين يريد الإنسان أن يحصل على ما يوفر له ولعائلته متطلبات الحياة المستقرة ليس عيبًا لكن العيب أن يتحول الإنسان إلى أشبه بآلة إنتاج النقود التي لو تعطلت لم تعد تساوي شيئًا، وهذا حال بعض أصحاب المهن والوظائف التي ترتبط مِهنهم بحياة الناس.

2. هوس المقتنيات الباهظة: ومن ضروب الهوس التي تسيطر على عقول بعض الشباب هو هوسهم بشراء الملابس والساعات والعطور وجميع المقتنيات ذات المناشئ العالمية مرتفعة الأسعار بالمقارنة بالمقتنيات الأخرى والتي تؤدي ذات الغرض وربما تفوق الماركات العالمية، وبالتالي يكون الفرد فارغ المحتوى ويرى أن قيمته من قيمة ما يظهر به أمام الناس.

وما يجب هو أن يستر الإنسان نفسه ولا يقصر عليها وفق الحدود الطبيعية فلا يثقل نفسه بأعمال شاقة ومؤذية ولا يضطر إلى الديون وغيرها من السلوكيات غير المنطقية في سبيل كسب أكبر قدر من المال، وهنا يجب أن يعي الإنسان أن قيمته ما يُحسِنه لا ما يرتديه أو يقتنيه وحين تترسخ في نفسه هذه القناعة سيغادر سلوكية الهوس بهدوء ويعود ليرحم نفسه ويريحها من تعبها.

3. هوس الوظائف الوجيهة: كما يذهب الكثير من الشباب باتجاه هوس الوظائف فيميلون بل يستقتلون في البحث عن وظائف ذات سمعة جيدة حتى ولو كانت مُرتباتها عادية فالمهم هو أن يراه الناس في ذلك المكان أو يحمل هوية تعريفية من ذلك المكان أو أنه يمتلك سيارة حكومية وسائق وغيرها من مظاهر الأبهة والتصنع والمظاهر البراقة جوفاء المضمون.

وما يُفترض هو أن يبحث الإنسان عن الوظائف التي تكفيه ماديًا هو وعائلته أو من هم في مسؤوليته ويجد نفسه فيها من حيث ملائمتها له نفسيًا وماديًا وليس للاعتبارات الأخرى مكان في تفكيره، لكون مثل هذه الاعتبارات ستفوت عليه الكثير من الفرص لكون الفرص قد لا تأتي مفصلة على مقاسه فيبقى حبيس الدار فارغ الجيب لا يتمكن من توفير ما يحتاجه فيعيش حالة بؤس كبيرة تؤدي به إلى انخفاض مستوى الصحة النفسية وبعدها حتمًا ستتأثر صحته الجسمانية.

4. هوس السيارات الفارهة: ومن ضروب الهوس التي تسيطر على أنفس الكثير من الشباب هو هوس السيارات، إذ تجد الكثير من الشباب يجهدون أنفسهم في أعمال شاقة وقد يلجئون إلى الكسب الحرام من أجل جمع المبلغ الذي يمكنه من شراء سيارة أحلامه والتي يقتنيها أحد المشاهير أو أن أصدقائه لديهم شبيهتها، ولا يهم التقصير في جوانب حياتية مهمة فالمهم أن يراه الناس بهذه السيارة التي يعدها تمثل حالة الرفاه التي يعيشها تحت سطوة الوهم.

بينما يفكر الشباب بهذه الطريقة المشوهة حول شراء السيارات مرتفعة الأثمان يُفترض أن تكون قناعته أن السيارة هي وسيلة للتنقل وقضاء الحاجة للفرد وللعائلة وليست وسيلة للتفاخر ولا الابتزاز العاطفي كما هو الحال بالنسبة لطلبة الكليات وسواهم من الشباب، وهذه القناعة ستعيدهم إلى رشدهم ليُعدّوا بعد ذلك ترتيب أولويات حياتهم بعيدًا عن المظاهر والاعتبارات التافهة الأخرى.

5. هوس العطور الثمينة: وهوس العطور هو الآخر واحد من أكثر أنواع الهوس التي تصيب فئة من الشباب وتجعلهم يميلون إلى شراء العطور الثمينة التي لا تناسب مستويات دخولهم، ومع كون العطور من الأشياء المكملة لشخصية الإنسان والتي تزيد من مقبوليته اجتماعيًا لكن ذلك ليس مبررًا لأن تحرق مبالغ كبيرة عليها لا لشيء بل ليقول من يشم العطر إنه فاخر وإن صاحبه متمكن ماديًا فما يبحث عنه الشاب في مثل هذه الحالة هو رضا الناس لا رضا نفسه.

والمفترض أن يُجمِّل ويُعطِّر الإنسان نفسه ولا يبدو عليه ما يثير اشمئزاز المحيط الاجتماعي منه كالرائحة الكريهة وما شاكلها، لكن يجب الاعتدال والتصرف وفق الإمكانات المتاحة، فليس منطقيًا أن يعمل أحدهم طوال النهار بـ (15) ألف دينار مثلًا ويشتري عطرًا بـ (150) ألف دينار أو أكثر، فهذا السلوك يدل على كون من يقوم به ليس مدركًا لما يقوم به والأفضل الاعتدال والتوسط دائمًا.

6. هوس السفر والتصوير: كما يُصاب الكثير من الشباب بهوس السفر الذي يمتزج معه هوس التصوير، فالكثير من الشباب يسافرون من أجل التصوير ونشر الصور ومقاطع على وسائل التواصل الاجتماعي، وهذا يحصل بفعل حب الشهرة والتميز عن الآخرين سواء الأقران أو باقي الفئات العمرية وهذا ما يضيع المتعة في السفر.

ما يجب هو التمتع بكل تفصيلات السفر والبحث عن الجديد فيه من أجل النفس وراحتها لا من أجل التصوير وتصدير نفسه للناس على "أني مختلف"، وإن حصل أن تُصور بعض الأمور التي تلفت انتباهك فلا يجب نشر كل شيء فالخصوصية أحيانًا مهمة وواجبة لا يجب الاستغناء عنها وفضح كل ما يحصل للإنسان، فإذا كانت وسائل التواصل لا تضع محددات يجب على الإنسان أن يضع لنفسه محددات ويمنعها من السلوكيات غير السليمة.

7. هوس المطاعم الفخمة: ويُصاب الكثير من الشباب من الإناث والذكور بهوس المطاعم، فقد تجد الكثير منهم يحاولون التردد على المطاعم الفخمة، فصورة عند مدخل المطعم تبين اسمه وأخرى للوجبة التي يطلبها كفيلة بأن يكونوا في مصاف الأثرياء أو المهمين في مجتمعهم كما يعتقدون وهو ما يجعل المطاعم مكانًا للاستعراض لا للغذاء.

المفترض هو أن يخرج الإنسان برفقة عائلته أو أصدقائه أو زملائه في العمل من أجل كسر الروتين وتجنب الملل، وتناول وجبة مُحبذة فالنفس الإنسانية تطلب بعض الأمور وتوجب على الفرد إشباعها، ومثل السلوكيات المصاحبة مثل التصوير وغيره يُفقد الإنسان اللذة ويبعده عن الهدف الأساس من السلوك وهذا ما يجب الابتعاد عنه.

8. هوس الجسم المثالي وكمال الأجسام: ومن أنواع الهوس التي تصيب الشباب هو الهوس بالجسم المثالي أو الجسم الرياضي، فتفكير الإنسان بجعل جسمه مثاليًا خاليًا من السمنة أمر غاية في الروعة لكن أن يتحول الأمر إلى هوس هنا تكمن المشكلة، إذ أن الكثير من الشباب ينفقون أموالًا كبيرة على شراء الأطعمة والعقاقير والبروتينات من أجل بناء العضلات لتكون ملفتة للنظر سيما فئة الطلبة وغيرهم من الشباب غير الناضجين.

وما يجب هو ممارسة الرياضة من أجل الظفر بجسم جميل ووزن صحي، فالتفكير هذا يجعل الإنسان يعمل من أجل تحقيق مكاسب ذاتية لا من أجل الآخرين وما يرونه فيه، فلا الأدوية ولا العقاقير ستنفع منهم بل العكس ستنال من صحتهم في المستقبل.

9. هوس تقليد المشاهير: ومن صور الهوس لدى الشباب هو هوس بتقليد المشاهير، فما أن يقص لاعب كرة قدم على سبيل المثال شعره بطريقة معينة حتى تجد ربما في اليوم التالي الكثير من الشباب يقلدون تسريحته، وراح بعضهم إلى أبعد من ذلك في التقليد فصاروا يقلدون طريقة المشي والكلام وغيرها من الحركات، وهذا دليل أبلج على عدم نضج المقلد وعدم امتلاكه لهوية تقيه مثل هذا التدهور السلوكي.

وما يجب هو أن يكون الإنسان لنفسه هوية تنسجم مع قيم وعادات وأخلاقيات ومبادئ مجتمعه بعيدًا عن هذا الهوس المرضي الذي يجعل الفرد ناشزًا ومرفوضًا مجتمعيًا كما في الكثير من الأحيان.

في الختام إن الإنسان بمثل هذه السلوكيات لا يكبر في عين الآخرين بل يحط من قيمته ويبتعد عن إنسانيته وعن فطرته السليمة وعن الرسالة الإنسانية التي خُلق من أجلها فيصبح كالأنعام بل أضل سبيلًا، وعليه أن يَعِي عواقب سلوكياته ويحاول الابتعاد عنها ما استطاع وذلك طريق الرشاد.

اضف تعليق