إنّ الأحزاب الهوياتية ليست مجرد ظاهرة سياسية عابرة، بل هي مرض بنيوي أصاب الحياة السياسية العراقية وأعاق بناء الدولة الحديثة وأفرغ الديمقراطية من مضمونها، ومعالجة هذا المرض تبدأ بإعادة تعريف السياسة بوصفها فضاءً عامًا لا ملكية جماعية لهوية ما، وبوصفها مسؤولية وطنية لا امتيازًا حصريًا، وبوصفها وظيفة حضارية تهدف إلى خدمة الإنسان...
تمثل الأحزاب الهوياتية واحدة من أخطر الظواهر السلبية التي أصابت الحياة السياسية في العراق بعد عام 2003، لأنها حوّلت الفضاء السياسي من ساحة تنافس بين البرامج والرؤى والمشاريع إلى ساحة انقسام اجتماعي عميق يقوم على الطائفة والقومية والعشيرة والمذهب والمناطقية، فبدل أن تكون السياسة أداة لتنظيم المصلحة العامة، أصبحت أداة لحماية الهويات الجزئية وتبادل النفوذ بين جماعات مغلقة، الأمر الذي أدى إلى تعطيل بناء الدولة الحديثة وتكريس المحاصصة وعرقلة الإصلاح وإضعاف مؤسسات الدولة وإفراغ الديمقراطية من مضمونها الحقيقي.
إنّ الأحزاب الهوياتية ليست مجرد فاعل سياسي، بل هي بنية ذهنية واجتماعية تنتج مجتمعًا سياسيًا مشطورًا إلى جماعات متقابلة تتنافس على السلطة باعتبارها غنيمة وليست مسؤولية، وتتعامل مع الدولة باعتبارها مجالًا للنفوذ لا مؤسسة عليا محايدة، وتعتبر المواطن فردًا تابعًا للهوية لا مواطنًا كامل الحقوق، وتحوّل الانتخابات إلى استفتاء على الهويات لا إلى منافسة بين البرامج.
وفي ظل هذا النظام الهوياتي يصبح من المستحيل تكوين حكومة وطنية حقيقية، أو بناء مؤسسات قوية، أو إنتاج سياسات عامة تستجيب للاحتياجات الوطنية، لأن كل قرار يخضع لمنطق التوازنات بين الجماعات لا لمنطق المصلحة العامة.
لقد أدت الأحزاب الهوياتية إلى تشويه معنى الديمقراطية في العراق، فالانتخابات تحولت إلى عملية تعبئة عاطفية، وصناديق الاقتراع تحولت إلى آلية لإعادة إنتاج القوى نفسها، بينما فقد المواطنون الثقة بجدوى المشاركة السياسية، لأن النتائج شبه محسومة مسبقًا بفعل الولاءات الهوياتية.
وبدل أن تكون الديمقراطية وسيلة للتجديد السياسي وتغيير النخب، أصبحت وسيلة لتثبيت الواقع القائم وحماية الامتيازات، فأصبحت البلاد أمام حالة يمكن وصفها بـ«الأوليغارشية الانتخابية» حيث تتداول النخب الهوياتية السلطة فيما بينها دون قدرة حقيقية للمجتمع على تغييرها.
كما أنتجت الأحزاب الهوياتية حالة من الازدواجية في الولاء؛ فبدل الولاء للدولة، أصبح الولاء للهويات الموازية، وبدل الاحتكام للقانون، أصبح الاحتكام للزعيم الهوياتي، وبدل سيادة الدولة الواحدة، ظهرت سلطات متعددة داخل الدولة نفسها. وهذا الانقسام البنيوي أنتج سلاحًا منفلتًا، وأجهزة موازية، وشبكات نفوذ اقتصادية وسياسية ترتبط بالهويات ولا ترتبط بالمؤسسات، الأمر الذي جعل الدولة عاجزة عن فرض القانون أو تحقيق العدالة أو إدارة التنافس السياسي بصورة سليمة.
كما أدى النظام الهوياتي إلى تجميد الوعي السياسي للمجتمع، لأن المواطن لا يُقيّم المرشح وفق الكفاءة أو البرنامج، بل وفق الهوية، وهو ما أضعف التفكير النقدي، وأفقد السياسة معناها الحضاري، وكرّس ثقافة الانتماء الضيق على حساب الانتماء الوطني، وحوّل الانتخاب من فعل خيار إلى فعل اصطفاف. فالمجتمع الذي تُهيمن عليه الأحزاب الهوياتية يفقد القدرة على التحول، لأن الهوية تتغلب على العقل، والانتماء يتغلب على المصلحة العامة، والولاء يتغلب على القانون.
وقد أثبتت التجارب المقارنة أن الأحزاب الهوياتية لا تُنتج دولة حديثة، بل تُنتج دولة ضعيفة، لأن الدولة لا يمكن أن تكون قوية إذا كانت مؤسساتها موزعة بين الولاءات الضيقة، ولا يمكن أن تكون عادلة إذا كانت قراراتها محكومة بالتوازنات الطائفية، ولا يمكن أن تكون مستقرة إذا كانت القوة موزعة بين جماعات الهوية المسيّسة. فالدول التي خرجت من الصراع ونجحت في بناء ديمقراطية حديثة مثل جنوب أفريقيا وتشيلي وألمانيا وكوريا الجنوبية اعتمدت على أحزاب برامجية وطنية، بينما الدول التي ظلت أسيرة الأحزاب الهوياتية ظلت تعاني من الانقسام والفساد والشلل السياسي.
إنّ العلاج الجذري لهذه الظاهرة لا يقتصر على تعديل قانون الانتخابات أو تغيير شكل الدوائر، بل يتطلب بناء نظام حزبي جديد ينتقل من الهوية إلى البرنامج، ومن الجماعة إلى الوطن، ومن الزعامة الشخصية إلى القيادة المؤسسية، ومن الخطاب التعبوي إلى الخطاب السياسي المسؤول. ويتطلب الأمر دولة قوية محايدة قادرة على فرض القانون وتحقيق العدالة وتنظيم المجال العام وتحييد السلاح ومكافحة الفساد، لأن الإصلاح الحزبي لا يمكن أن ينجح في ظل دولة ضعيفة أو مسيسة أو خاضعة للنفوذ الهوياتي.
كما يتطلب ذلك بناء وعي مجتمعي جديد يقوم على قيم الدولة الحضارية الحديثة: الحرية والعدالة والمساواة والمسؤولية والإتقان والتعاون والتضامن والتسامح والثقة والسلام والإبداع، لأن هذه القيم وحدها هي التي تتيح للمواطن أن يتحرر من ضغط الهوية وأن يفكر وفق المصلحة العامة وأن يتعامل مع السياسة بوصفها وسيلة للبناء لا وسيلة للانقسام. وعندما يصبح المجتمع واعيًا، تصبح الأحزاب الهوياتية بلا قدرة على الاستمرار، لأن قوتها تقوم على ضعف الوعي لا على قوة الفكرة.
إنّ الأحزاب الهوياتية ليست مجرد ظاهرة سياسية عابرة، بل هي مرض بنيوي أصاب الحياة السياسية العراقية وأعاق بناء الدولة الحديثة وأفرغ الديمقراطية من مضمونها، ومعالجة هذا المرض تبدأ بإعادة تعريف السياسة بوصفها فضاءً عامًا لا ملكية جماعية لهوية ما، وبوصفها مسؤولية وطنية لا امتيازًا حصريًا، وبوصفها وظيفة حضارية تهدف إلى خدمة الإنسان وإطلاق طاقات الدولة والمجتمع. وعندما تنتقل الحياة السياسية من الهويات إلى البرامج، ومن الانقسامات إلى المشروع الوطني، ومن الولاءات الضيقة إلى المواطنة، يبدأ بناء الدولة الحديثة ويبدأ الانطلاق نحو ديمقراطية صحيحة تستمد قوتها من القانون والقيم والوعي، لا من التوازنات الهوياتية التي عطّلت الدولة وأضعفت المجتمع وأضرت بالعراق لسنوات طويلة.



اضف تعليق