إن الأزمة الاقتصادية في العراق، إن وُجدت، هي أزمة إدارة وإصلاح قبل أن تكون أزمة رواتب. ومعالجة هذه الأزمة تتطلب رؤية شاملة تبدأ بإيقاف الهدر، وإعادة ترتيب أولويات الإنفاق، وتعزيز الشفافية والمساءلة، بدل اللجوء إلى حلول سريعة تمس شريحة واسعة من المجتمع...

في خضم النقاشات الاقتصادية المتصاعدة في العراق، عاد ملف رواتب موظفي الدولة إلى واجهة الجدل العام، بوصفه أحد أبرز بنود الإنفاق في الموازنة العامة، وكمحور أساسي في الحديث عن العجز المالي وإدارة الموارد. هذا الجدل، الذي تصاعد حضوره في وسائل الإعلام ومنصات التواصل الاجتماعي، يثير تساؤلات مشروعة حول طبيعة الأزمة المالية، وأسبابها الحقيقية، والخيارات المطروحة لمعالجتها.

تمهيد إعلامي وتساؤلات مشروعة

خلال الفترة الأخيرة، برز توجه إعلامي واضح يركز على ملف الرواتب، من خلال استضافة سياسيين ومحللين اقتصاديين يطرحون سيناريوهات متعددة، تبدأ بتوصيف الأزمة المالية، وتنتهي عند مقترحات تتعلق بتقليل الرواتب أو استقطاعها أو إعادة هيكلة الجهاز الوظيفي. هذا الطرح، رغم مشروعيته من حيث النقاش، يفتح الباب أمام تساؤل أساسي:

هل تمثل رواتب الموظفين فعلاً جوهر الأزمة المالية في العراق؟

هل العراق في أزمة مالية حقيقية؟

وفق المعطيات الاقتصادية المتاحة، فإن العراق لا يمر بحالة إفلاس مالي، ولا يواجه انهياراً اقتصادياً بالمعنى المتعارف عليه دولياً. فالبلاد تمتلك موارد نفطية كبيرة، وتحقق إيرادات سنوية ضخمة، كما أن الموازنات الاتحادية الأخيرة تُعد من الأكبر في تاريخ الدولة العراقية.

وعليه، فإن التحدي القائم لا يكمن في شح الموارد بقدر ما يرتبط بـ طبيعة إدارة هذه الموارد، وآليات الإنفاق، وغياب التخطيط الاستراتيجي طويل الأمد. ففي تجارب دولية عديدة، لم يُلجأ إلى المساس برواتب الموظفين إلا في حالات عجز سيادي حاد، وتحت برامج إنقاذ واضحة ومحددة زمنياً، وهو ما لا ينطبق على الحالة العراقية حتى الآن.

التقشف وانتقائية التطبيق

يثير التركيز على رواتب الموظفين تساؤلات أخرى تتعلق بعدالة توزيع الأعباء. ففي حال تبني أي سياسة تقشفية، يفترض أن تبدأ من مفاصل الإنفاق الأعلى كلفة والأقل مردوداً، مثل:

رواتب وامتيازات الدرجات الخاصة.

مخصصات الهيئات المستقلة وأعضاء البرلمان.

كلف الحمايات والإيفادات الرسمية.

الإنفاق على أساطيل السيارات الحكومية.

مجالس المحافظات التي لم تحقق أثراً خدمياً يتناسب مع كلفها.

إن تجاوز هذه الملفات، والتركيز المباشر على دخل الموظف، يخلق انطباعاً بأن المعالجة المالية انتقائية، ولا تستند إلى رؤية شاملة للإصلاح.

المسؤولية عن الهدر المالي

من منظور اقتصادي وإداري، لا يمكن تحميل الموظف مسؤولية العجز أو الهدر. فالسياسات المالية، والعقود، والموازنات، وآليات الصرف، هي نتاج قرارات حكومية متراكمة. كما أن غياب المحاسبة الفاعلة، وتأخر تفعيل قوانين رقابية مهمة، أسهما في استمرار الهدر دون معالجة جذرية.

هل الرواتب سبب الأزمة؟

تشير التحليلات الاقتصادية إلى أن رواتب الموظفين لا تُعد عبئاً صرفياً فقط، بل تمثل عنصراً محفزاً للاقتصاد المحلي من خلال تحريك السوق ودعم الاستهلاك. وعليه، فإن الأزمة لا تنشأ من الرواتب بحد ذاتها، وإنما من ضعف الاستثمار، وتعطيل القطاعات الإنتاجية، وغياب التنويع الاقتصادي، وترك السوق لقوى غير منظمة.

الواقع المعيشي للموظف

من المهم الإشارة إلى أن الرواتب الحالية تُصرف في ظل تغيّر كبير في الظروف الاقتصادية. فقد تراجعت القوة الشرائية للموظف نتيجة التضخم وارتفاع الأسعار، في وقت زادت فيه الضرائب والرسوم، دون تحسن ملموس في مستوى الخدمات. وهو ما يعني أن الموظف تحمّل جزءاً من كلفة الأزمة فعلياً، حتى قبل الحديث عن أي استقطاعات محتملة.

خلاصة القول

إن الأزمة الاقتصادية في العراق، إن وُجدت، هي أزمة إدارة وإصلاح قبل أن تكون أزمة رواتب. ومعالجة هذه الأزمة تتطلب رؤية شاملة تبدأ بإيقاف الهدر، وإعادة ترتيب أولويات الإنفاق، وتعزيز الشفافية والمساءلة، بدل اللجوء إلى حلول سريعة تمس شريحة واسعة من المجتمع.

فالأزمات لا تُحل بتحميل أعبائها لمن لا يملك القرار، بل بمعالجات عقلانية توازن بين الاستقرار المالي والعدالة الاجتماعية، وتضع الإصلاح الحقيقي في مقدمة الخيارات.

اضف تعليق