مقومات الانصاف واحقاق الحق لا يمكن ان تستقيم بمجرد وجود المؤسسة المعنية بذلك، وانما لابد وان تدار ممن يملك العقل والذكاء والضمير ويكون سلوكه العام هو الانصاف واحقاق الحق والنزاهة والاستقامة، والا فان الفتن ستكون النتيجة الحتمية لكل مجتمع وفي أي زمن ومن ثم تضعف الدولة وتستباح ثرواتها...
اثناء قراءة كتاب العلامة الشيخ اسد حيدر (رحمه الله) الموسوم (الامام جعفر الصادق والمذاهب الأربعة)، اثار الانتباه الى الاخبار التي تضمنها، حيث ان الكتاب فيه استعراض تاريخي لمواقف العلماء والحكام والسلاطين والقضاة، ولاحظت بانه ينقل الوقائع من مصادر موثوقة ومحل اعتبار لدى الجميع.
وتشير هذه الوقائع الى ان القضاء في التاريخ الإسلامي كان سبباً في حصول الفتن بين المسلمين، وهو امر استغربته في اول وهلة لأني وسواي نظن بان القضاء ملاذ المظلوم في الانصاف من جور الاخر من نظرائه من البشر او من الطغاة والظالمين، واضفينا عليه وصف القداسة، لان الله عز وجل جعل وظيفة القضاء من وظائف الأنبياء بقوله تعالى (يا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُم بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَىٰ فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ ۚ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ).
الا ان هذه الاخبار التي حفظت الوقائع المتصلة بالفتن، كانت تشير الى ان سببها هو القضاء بوصفه العام المؤسسي او بعض القضاة الذين كانوا هم السبب المباشر من جراء فتاواهم واحكامهم.
ويشير المرحوم العلامة اسد حيدر، الى احدى تلك الوقائع حيث يقول، (بان القضاء كان لمذهب معين لإيثار الخلفاء لهم بذلك، ولما أراد الخليفة العباسي "القادر باللّه" نقله إلى مذهب آخر، عين القاضي "...." بدلا من قاضي بغداد "..." بإشارة أبي حامد الاسفراييني، وكتب أبو حامد بذلك إلى السلطان محمود، وأهل خراسان: أن الخليفة نقل القضاء عن "..." إلى "..." فاشتهر ذلك وصار أهل بغداد حزبين ثارت بينهما الفتن) نقلا عن (الامام الصادق والمذاهب الأربعة ، طبعة عام 2004 ـ منشورات دار الكتاب الإسلامي في بيروت ـ ج1 ـ ص209) .
ويضيف الشيخ اسد في كتابه المذكور انفاً، الى أهمية القضاء لدى المذاهب الإسلامية فيقول (يظهر لنا من هذه القصة عظيم اهتمام المذاهب، يعود الأمر لمنزلة القضاة إذ هم همزة الوصل بين البلاط وأهل ذلك المذهب، وتكون لهم تلك الحظوة ونيل الكرامة و العناية والحرمة) ويعلل الامر بان هذا كان سبباً في حمل بعض انصار هذه المذاهب على إثارة تلك الفتنة والسعي لان يكون الاختصاص بهذه المنزلة دونهم.
كما يصل الى استنتاج صاغه بالجملة الاتية (بان القضاة في أغلب الأوقات يثيرون الفتن ويوقدون نار الحرب بين الطوائف. فأحمد بن صاعد رئيس نيسابور وقاضيها وكان يلقب بشيخ الإسلام قد بالغ في تعصبه على بقية المذاهب فأغرى بعضهم ببعض حتى لعنت الخطباء أكثر الطوائف على المنابر)، ويضيف الشيخ اسد عن السبب في هذا الحال بان (إن أسباب تلك الفتن التي حلت بالمسلمين كلها تعود لمسايرة بعض العلماء للدولة، ويؤيد وجهة نظرها، فأغدقت عليه العطاء وذلك أصبح العلم مسايرا للدولة.) (ص200)
لان قوة الدافع السياسي هو الذي يحاول ألا تتفق الأمة على رأي واحد فهو يعمل على إحياء العصبية (إذ لا حياة للنظام الملكي إلا بها) (ص197).
وهذه الوقائع التاريخية تؤكد لنا بان أي مؤسسة مهما كان وصفها تجاه قول الحق والانصاف، فإنها قد تكون سبباً في الفرقة والفتنة وضياع المال العام، لان هذا التعصب الذي طال مؤسسة القضاء في القرن الخامس الهجري وما قبله وما بعده كان سبباً في ضياع الدولة وضعفها.
ومن اهم النتائج التي أشار اليها الشيخ اسد تمثل بأبعاد الكفاءات من المسلمين عن مراكز القرار او مواقع العمل في الدولة، وكان ابن خلدون قد أشار الى ذلك بقوله (اشترط في الحاكم قلة الإفراط في الذكاء، وتقرر من هذا أن الكيس والذكاء عيب في صاحب السياسة لأنه إفراط في الفكر كما أن البلادة إفراط في الجمود والطرفان مذمومان من كل صفة إنسانية) نقلا ن كتاب (مقدمة ابن خلدون الفصل 24 الباب 3 من الكتاب الأول).
ويبدو ان هذا السياق السلوكي يشمل اغلب المجتمعات ولا يقتصر على المجتمع الإسلامي والعربي، وانه لم يتوقف بل ما زال ممتداً لغاية الان، ويشير عالم النفس الفرنسي غوستاف لوبون المتوفى عام 1932 في كتابه الموسوم (سيكولوجية الجماهير) منشورات دار الروايات العالمية الطبعة الأولى عام 2021 ـ ص180، حيث يقول (يمكن للقادة المحركين ان يكونوا أحيانا أذكياء ومثقفين، لكن ذلك يضرهم عموماً اكثر مما ينفعهم، لان هؤلاء القادة في المجالس النيابية على مر العصور، وخصوصا الذين برزوا أثناء الثورة الفرنسية كانوا محدودي العقل جداً ومع ذلك مارسوا تأثيراً كبيراً).
وفي الادب هناك مخيال يدور في فلك قوة السيف وليس قوة العقل والذكاء، وأشار الى ذلك الكاتب الفرنسي أناتول فرانس المولود في نهايات القرن السابع عشر ميلادي في روايته الموسومة (فقيرٌ أمام القضاء) والتي عربها الكاتب يوسف ابراهيم يزبك وطبعتها بيروت عام 1938، حيث يقول (عندما يتقدم الإنسان إلى الشهادة ومسلحاً بسيف أو مسدس فان الرئيس يصغي إلى السيف أو المسدس وليس إلى حاملهما، لان الإنسان محتقر ومطبوع على الخطأ وأما السيف أو المسدس فلم يكن احدهما يوماً محتقراً، وإنما كان على حق ،وعلى حق دائماً!) ثم يستمر بقوله (إنهما يمثلان القوة وما القضاء إلا إدارة القوة) وهذا ما ورد في الصفحة (41) من الرواية.
وهذا الملحظ التاريخي يبين لنا ان مقومات الانصاف واحقاق الحق لا يمكن ان تستقيم بمجرد وجود المؤسسة المعنية بذلك، وانما لابد وان تدار ممن يملك العقل والذكاء والضمير ويكون سلوكه العام هو الانصاف واحقاق الحق والنزاهة والاستقامة، والا فان الفتن ستكون النتيجة الحتمية لكل مجتمع وفي أي زمن ومن ثم تضعف الدولة وتستباح ثرواتها ويسود الظلم فيها، وتقع تحت نير الاحتلال، مثلما حصل مع الخلافة العباسية ومن بعدها الخلافة العثمانية، والحال الذي عليه العرب والمسلمين ليس بأفضل من الحال الذي كان سائداً آنذاك.



اضف تعليق