إن الديمقراطية ليست في الصناديق وحدها، بل في احترام نتائج الصناديق، وإن تشكيل الحكومة ليس حدثًا تقنيًا بعد الانتخابات، بل هو جوهر العملية الديمقراطية، فإذا انفصل عن إرادة الناخبين، كما يحدث في المفاوضات الحزبية المغلقة، فقد النظام معناه، وتحولت الدولة من دولة مواطنين إلى دولة كتل وقوى، وهذا هو الخلل الذي يجب مواجهته...
تشكّل الانتخابات في الأنظمة الديمقراطية لحظة التأسيس الأولى للشرعية السياسية، لأنها الآلية التي تُعيد السلطة إلى الشعب ليختار من يحكمه، وفي اللحظة التي تنتهي فيها الانتخابات تبدأ عملية تشكيل الحكومة بوصفها الامتداد الطبيعي لإرادة الناخبين، لكن التجربة العراقية خلال العقدين الماضيين تكشف عن مسار مختلف تمامًا، حيث تتحول العملية من صياغة حكومية نابعة من صناديق الاقتراع إلى مفاوضات حزبية مغلقة تشارك فيها قيادات غير منتخبة، وتُفتح فيها أبواب الترشح لمنصب رئيس الوزراء داخل “هيئات عليا” لا علاقة لها بالصوت الشعبي، وهو ما يجعل تشكيل الحكومة في العراق عملية منفصلة جذريًا عن لحظة الاقتراع، بحيث يصبح السؤال المشروع: ماذا بقي من الانتخابات إذا كانت السلطة الفعلية تنتج من غرف حزبية مغلقة لا من إرادة الناس؟
إن المفاوضات الحزبية تفشل في إنتاج حكومات ديمقراطية لأنها لا تقوم على قواعد الديمقراطية الأساسية، إذ لا تنطلق من نتائج واضحة تقود إلى حكومة نابعة من الحزب الفائز أو من تحالف معلن مسبقًا، بل تبدأ بعد الانتخابات في بيئة غير مستقرة تشهد تشكُّل “كتل أكبر” جديدة لا علاقة لها بخيارات الناخبين، مما يجعل الفائز في ليلة الانتخابات غير فائز في اليوم التالي، وهذه الظاهرة — التي أصبحت سمة بنيوية في المشهد السياسي — تعني أن الانتخابات تتحول إلى حدث رمزي يُستخدم لتوزيع الشرعية الشكلية، بينما القرار النهائي يُصنع في غرف مغلقة ضمن مفاوضات لا تخضع لأي منطق ديمقراطي في اختيار القادة أو البرامج أو السياسات.
وتُعدّ هذه المفاوضات سلوكًا غير ديمقراطي لعدة أسباب؛ أولها أنها تُقصي الشعب من المشاركة في تشكيل حكومته، فبينما يُفترض أن يكون الناخب هو الذي يمنح التفويض، نجد أن التفويض يتقرر في النهاية على أيدي أشخاص قد لا يكونون منتخبين أصلًا، يشاركون في لجان أو هيئات داخل أحزاب أو تحالفات، يختارون رئيس الوزراء، ويحددون شكل الحكم، ويوزعون المناصب، دون أن يكون لهم ارتباط قانوني أو أخلاقي بإرادة الناخب، ودون أن يخضعوا للمساءلة البرلمانية أو الشعبية. وهكذا تصبح الدولة رهينة “نخبة حزبية” لا سلطة للناخب عليها، ولا قدرة له على تغييرها، ولا شرعية انتخابية تربطها بالمجتمع.
والسبب الثاني لكون هذه المفاوضات غير ديمقراطية هو أنها تُلغي عمليًا نتائج الانتخابات، إذ تُحوّل الأغلبية البرلمانية من حقيقة انتخابية إلى “تجميع سياسي”، وتتبدل فيها موازين القوة من نتائج صناديق الاقتراع إلى نتائج المساومات، فيتحول النظام من ديمقراطية تمثيلية إلى “محاصصة توافقية”، ويتحول الفائز إلى مجرد رقم في معادلة أكبر منه، ويتحول الخاسر إلى لاعب رئيسي قادر على فرض شروطه، وتختفي الحدود الفاصلة بين من منحه الناس أصواتهم ومن لم يمنحوه شيئًا، وبذلك تعود السلطة إلى أيدي التنظيمات الحزبية بدلًا من أن تبقى في يد الشعب.
والسبب الثالث أن هذه المفاوضات تنتج حكومات ضعيفة غير قادرة على العمل، لأنها لا تنبثق من برنامج انتخابي واحد، بل من برامج متناقضة تُجمع داخل “حزمة تسوية”، فتتحول الحكومة إلى اتحاد هشّ بين قوى متنافرة لا يجمعها سوى الاتفاق على تقاسم السلطة، لا رؤية وطنية ولا مشروع إصلاحي، وبذلك تفقد الحكومة قدرتها التنفيذية والاستراتيجية، ويتحول كل قرار إلى مفاوضات جديدة، وتصبح عملية الحكم سلسلة متواصلة من الاسترضاءات عبر الوزارات والدرجات الخاصة والهيئات المستقلة، وهذا ما يجعل الحكومات الناتجة من هذه العملية غير مستقرة وغير فعّالة، لأنها نتاج تفاوض وليس نتاج انتخاب.
والسبب الرابع أن هذه المفاوضات تجري في الظل بعيدًا عن الرأي العام، مما يجعل العملية السياسية تفتقر إلى الشفافية، إذ لا يعرف المواطن ما الذي يُبحث، ولا من يقرر، ولا على أي أساس يتم اختيار رئيس الوزراء، ولا ما هي المعايير، ولا كيف توزّع الحقائب، في حين أن الديمقراطيات الراسخة تجعل كل خطوة في تشكيل الحكومة خاضعة للضوء العام: الفائز يرشّح، والناس يعرفون برنامجه، والبرلمان يمنح الثقة بناء على مفاضلة سياسية معلنة، أما حين تتحرك عملية تشكيل الحكومة داخل غرف مغلقة، فإن الشعب يُقصى خارج المشهد، ويتحوّل دوره من مصدر الشرعية إلى متلقٍ لنتيجة لا يعرف كيف صُنعت.
أما السبب الخامس فهو أن هذه المفاوضات تخلق ازدواجية شرعية خطيرة؛ شرعية شكلية ناتجة من الانتخابات، وشرعية فعلية ناتجة من التوافقات، وكلما ضعفت الشرعية الانتخابية في تكوين السلطة، ضعفت ثقة الناس بالديمقراطية نفسها، وتحوّل النظام السياسي إلى نموذجٍ يقوم على القوة التفاوضية لا على التفويض الشعبي، وهذا ما يزرع الإحباط في المجتمع ويؤسس لثقافة سياسية ترى أن الانتخابات غير مجدية، وأن النتائج تُصنع خلف الستار مهما كانت خيارات الناس.
وهكذا، يصبح واضحًا أن المفاوضات الحزبية في صورتها العراقية لا تنتج حكومات ديمقراطية لأنها تحجب الشعب عن تقرير مصيره، وتستبدل الإرادة العامة بإرادة النخبة الحزبية، وتُضعف المؤسسات المنتخبة، وتُلغي عمليًا نتائج الانتخابات عبر صناعة “كتلة أكبر” جديدة لا علاقة لها بالصناديق، وتنتج حكومات مشلولة لا تستند إلى رؤية ولا إلى قوة برنامج، وبذلك يغيب أحد أهم شروط الدولة الحضارية الحديثة: انسجام السلطة مع الإرادة الشعبية وتطابق الشرعية الانتخابية مع الشرعية التنفيذية.
إن الديمقراطية ليست في الصناديق وحدها، بل في احترام نتائج الصناديق، وإن تشكيل الحكومة ليس حدثًا تقنيًا بعد الانتخابات، بل هو جوهر العملية الديمقراطية، فإذا انفصل عن إرادة الناخبين، كما يحدث في المفاوضات الحزبية المغلقة، فقد النظام معناه، وتحولت الدولة من دولة مواطنين إلى دولة كتل وقوى، وهذا هو الخلل الذي يجب مواجهته إذا أُريد للعراق أن ينتقل نحو دولة حضارية حديثة تقوم على الثقة والمسؤولية والإتقان والشرعية الشعبية الحقيقية.



اضف تعليق