إن استمرار الكتل في إعادة إنتاج خياراتها القديمة، رغم المحدودية الواضحة في حجم تأييدها الشعبي، يكشف عن غياب رؤية استراتيجية لدى هذه القوى التي ما زالت تتعامل مع عملية اختيار رئيس الوزراء باعتبارها شأناً داخليًا خاصًا بها لا علاقة له بإعادة بناء الدولة أو الاستجابة لمطالب المجتمع، الأمر الذي يجعل من كل مشاورات التشكيل السياسي مسارًا مغلقًا...

تشير المشاورات الرسمية وغير الرسمية، المعلنة وغير المعلنة، الجارية بين أركان الطبقة السياسية الحاكمة، وبخاصة الشريحة الشيعية منها، لاختيار رئيس جديد للحكومة إلى حالة جذب وفقر كبيرين في مجال الرؤية والخيارات، إذ تكشف هذه المشاورات أن القوى السياسية التي أدارت الحكومات المتعاقبة خلال العقدين الماضيين قد استنفدت تقريبًا كل ما لديها من طاقة ابتكار أو قدرة تجديد، ولم تعد تمتلك سوى إعادة تدوير الأسماء ذاتها التي سبق أن جرّبتها في مواقع السلطة، وتحمّلت المسؤولية الكاملة عن الأداء المتعثر الذي عاشه المواطن والدولة والمؤسسات. 

الأمر الذي يجعل من عملية اختيار رئيس وزراء جديد أشبه بمحاولة استعادة ما استُهلك بدل السعي إلى إنتاج بديل نوعي قادر على كسر الحلقة المغلقة التي تحكم المشهد منذ سنوات طويلة، ومع أن هذه القوى رفعت في الماضي شعار “المجرّب لا يُجرّب”، لكنها اليوم تعود إلى المجرّب ذاته لأنها لا تنظر إلى أبعد من أنفها ولا ترى في المجال السياسي سوى الوجوه التي اعتادت عليها، غير مدركة أن مشكلة البلاد ليست في العثور على اسم، بل في بناء رؤية وبنية حكم جديدة تتجاوز الزعامات التقليدية والهياكل القديمة التي أثبتت محدوديتها.

ويكشف تحليل الأرقام الانتخابية الأخيرة أن أيا من الكتل السياسية الشيعية لم يحصل على أغلبية مريحة أو حتى مؤهلة تمنحه تفويضًا شعبيًا واضحًا لإدارة الدولة، بل جاءت النتائج موزعة على حصص صغيرة ومبعثرة من أصوات الناخبين، بما يؤكد أن الشرعية التمثيلية لهذه القوى ليست شرعية صلبة، وأن التشتت الذي أصاب الناخبين انعكس مباشرة على ضعف الكتل نفسها، فبدلاً من أن تتعامل هذه القوى مع محدودية حصصها بوصفها مؤشرًا على الحاجة إلى التغيير والانفتاح على وجوه جديدة وعلى مقاربات غير تقليدية، عادت إلى دائرة التشاور الضيقة نفسها التي لا تضم إلا الأطراف التقليدية والفاعلين المعتادين، وكأن البلاد محكومة بحدود الأسماء لا بحدود المصالح الوطنية.

إن استمرار الكتل في إعادة إنتاج خياراتها القديمة، رغم المحدودية الواضحة في حجم تأييدها الشعبي، يكشف عن غياب رؤية استراتيجية لدى هذه القوى التي ما زالت تتعامل مع عملية اختيار رئيس الوزراء باعتبارها شأناً داخليًا خاصًا بها لا علاقة له بإعادة بناء الدولة أو الاستجابة لمطالب المجتمع، الأمر الذي يجعل من كل مشاورات التشكيل السياسي مسارًا مغلقًا لا يفضي إلا إلى تسوية بين أطراف فاقدة للثقة الشعبية الكبيرة، تسوية لا تنطلق من مشروع حكم أو برنامج وطني أو تصور حضاري لمستقبل الدولة، بل من توازنات داخلية ضيقة قائمة على منطق المحاصصة وحساب النفوذ.

وتدل حالة الانسداد هذه على أن البلاد تقف أمام أزمة سياسية بنيوية تتجاوز اسم رئيس الوزراء إلى افتقار الطبقة السياسية إلى القدرة على بلورة مشروع حكم يعيد الثقة ويحدث نقلة في الأداء، أزمة تعكس في جوهرها انقطاع الصلة بين القوى الحاكمة وبين المجتمع الذي منحها أصواتًا محدودة أصلاً، ثم وجد نفسه خارج دائرة القرار الذي يحدد مصيره ومصير دولته، فيما تتكرر الأنماط القديمة نفسها في إدارة الحكم وتوزيع المناصب وتدوير الوجوه، من دون إدراك لحجم التغيرات الاجتماعية والسياسية التي شهدها العراق خلال السنوات الماضية، ومن دون استعداد فعلي للانتقال من منطق إدارة الأزمة إلى منطق بناء الدولة.

وفي ظل هذا المشهد يصبح من الضروري إعادة قراءة الواقع السياسي بوصفه نتيجة مباشرة لغياب الرؤية الحضارية القادرة على تحويل السياسة من مسرح تسويات داخلية إلى أداة لبناء دولة حديثة تستند إلى قيم الحرية والعدالة والمساواة والمسؤولية والإتقان، فالوعي الشعبي المطلوب اليوم ليس وعيًا احتجاجيًا فقط، بل وعي قادر على إدراك أن الأزمات المتكررة ليست قدَرًا محتومًا، بل نتيجة طبيعية لبنية سياسية لا تتجدد ولا تستطيع إنتاج خيارات تتناسب مع حجم التحديات التي تواجهها البلاد، وأن الشرعية الحقيقية لا تُستعاد من خلال تبادل الأسماء داخل الدائرة ذاتها، بل عبر انتقال جوهري نحو مشروع وطني يضع مصلحة المجتمع فوق مصالح القوى المتنافسة ويستعيد ثقة المواطن بالدولة ومؤسساتها.

اضف تعليق