شهد العراق في تاريخه الحديث ظاهرة متكررة تمثّلت في بروز الزعيم الفرد بوصفه مركزًا للحياة السياسية، وغالبًا ما ترافق ذلك مع أشكال مختلفة من الاستبداد والعنف واحتكار القرار. لم تكن هذه الظاهرة نتاجًا لخصائص بيولوجية أو نفسية خاصة بالشعب العراقي، بل كانت ثمرة لبنية حضارية – اجتماعية – سياسية تشكلت في ظروف مضطربة...

شهد العراق في تاريخه الحديث ظاهرة متكررة تمثّلت في بروز الزعيم الفرد بوصفه مركزًا للحياة السياسية، وغالبًا ما ترافق ذلك مع أشكال مختلفة من الاستبداد والعنف واحتكار القرار. لم تكن هذه الظاهرة نتاجًا لخصائص بيولوجية أو نفسية خاصة بالشعب العراقي، بل كانت ثمرة لبنية حضارية – اجتماعية – سياسية تشكلت في ظروف مضطربة، وأسهمت في خلق بيئة مهيأة لظهور “الرجل الواحد” في موقع السلطة العليا. تهدف هذه القراءة إلى تحليل العناصر التي جعلت المجتمع العراقي مساعدًا — موضوعيًا — على إنبات شخصية الزعيم المستبد، ثم بيان كيف يمكن للدولة الحضارية الحديثة أن تنهي هذا النمط في جذره العميق.

أولًا: الإرث التاريخي للدولة المركزية الشديدة

تعود جذور المشكلة إلى قرون من الحكم المركزي الصارم، حيث تمثلت الدولة في شخص السلطان أو الوالي أو الحاكم العسكري، وتكرست صورة السلطة بوصفها قوة فوق المجتمع، لا كيانًا نابعًا منه. هذه الخبرة التاريخية الطويلة أسّست لمخيال جمعي يرى في القوة الفردية أساسًا للنظام، وفي القائد منبعًا للقانون، مما هيأ الأرضية النفسية لفكرة الزعيم المطلق.

ثانيًا: ضعف المؤسسات واستبدالها بالشخصيات

لم تنجح الدولة العراقية الحديثة، منذ تأسيسها في عشرينيات القرن الماضي، في ترسيخ مؤسسات مستقرة ذات تقاليد قانونية متينة. كل تغيير سياسي كان يقترن بتغيير جذري في بنية الدولة، مما جعل المؤسسات هشة وعرضة للانهيار عند كل انتقال للسلطة. في مثل هذه البيئة، يصبح الحاكم — لا النظام — هو محور العمل العام، ويتحول الولاء من المؤسسة إلى الشخص، وبذلك تتشكل البذرة الأولى للاستبداد الفردي.

ثالثًا: غياب التجربة الديمقراطية المستمرة

الديمقراطية ليست صندوق اقتراع فحسب، بل منظومة عادات سياسية وأخلاقية تتشكل عبر تجربة طويلة تتضمن النقد، والاعتراض السلمي، والتناوب المنتظم، واحترام القانون. إلا أن العراق لم يعرف — عبر تاريخه الحديث — دورة ديمقراطية مستقرة، بل عرف حلقات متقطعة تخللتها انقلابات وصراعات دموية، مما حال دون تراكم تقاليد مضادة للاستبداد. أدى ذلك إلى بقاء الوعي السياسي في مستوى البحث عن المنقذ أكثر من البحث عن الدولة.

رابعًا: البنية الاجتماعية الأبوية وثقافة الطاعة

يتسم المجتمع العراقي بقوة الروابط العائلية والقبلية والدينية، وهي روابط تتخذ غالبًا شكل بنية هرمية قائمة على الطاعة العمودية. في مثل هذه البنية الاجتماعية، تُصبح صورة “الكبير” أو “الشيخ” أو “السيد” هي النموذج الأول للسلطة. وعندما تتكرر هذه البنية في الأسرة والمجتمع، يصبح من الطبيعي نقلها إلى الفضاء السياسي، فينشأ تقبل ضمني لفكرة الزعيم الذي لا يُسأل ويُطاع.

خامسًا: الأزمات الكبرى وصناعة الحاجة إلى المنقذ

الحروب المتكررة، والحصار، والانهيارات الاقتصادية، والاحتلال، وانفجار الانقسامات الداخلية، كلها خلقت حالة من القلق الجماعي جعلت المجتمع يبحث عن شخصية قوية قادرة على فرض النظام. في لحظات الأزمة العميقة، يرتفع الطلب على “الرجل الحاسم”، ويتراجع الطلب على المؤسسات والقانون. وهكذا تتشكل البيئة المناسبة لصعود المستبد بوصفه مخلّصًا مؤقتًا يتحول — سريعًا — إلى سلطة مطلقة.

سادسًا: الانقسام الاجتماعي وغياب العقد الاجتماعي الواحد

أدى الانقسام الطائفي والقومي، خصوصًا بعد 2003، إلى تحوّل الهويات الفرعية إلى مصادر للولاء السياسي. عندما يلجأ المواطن إلى طائفته أو قوميته بحثًا عن الحماية، تظهر شخصيات تتصدر المشهد ممثلة لهذه الهويات، وتكتسب سلطتها بقدر ما توفّر من حماية لمجموعتها. تتطور هذه السلطة — حين تغيب الدولة المركزية والقانون — إلى سلطات شبه مطلقة، تمهّد لنمط جديد من “الاستبداد الهوياتي” ينشأ داخل المكوّنات قبل أن ينتقل إلى مستوى الدولة.

سابعًا: غياب التربية القيمية – الحضارية

لم تُبنَ منظومة تعليمية تُرسّخ قيم الحرية، والعدالة، والمساواة، والمسؤولية، والإتقان، والتعاون، وهي القيم التي تشكّل جوهر الدولة الحضارية الحديثة. التعليم التقليدي بقي قائمًا على الحفظ والطاعة والانضباط، وهو نمط يعيد إنتاج الوعي القديم الذي يقبل السلطة العليا مهما كانت صفاتها ما دامت توفر الأمن الظاهري. وبغياب منظومة قيم عليا تتحول التربية إلى فضاء غير مانع لنشوء الاستبداد.

ثامنًا: ثقافة المجد السياسي الفردي وتضخيم دور القائد

استمرت صورة “القائد الملهم” بوصفه بطلًا تاريخيًا في الوعي الجمعي، حتى عندما جاءت النتائج كارثية. هذه الثقافة التي تمجّد الفرد وتهمّش المؤسسة تزيد من قابلية المجتمع لقبول الاستبداد ما دام في صورة “بطولية”. وبذلك يُعاد إنتاج القائد الكبير الممسك بكل الخيوط، ويُعاد معه إنتاج دور الزعيم المستبد.

خلاصة: الطغيان بوصفه نتيجة لبنية حضارية وليست خاصية شعبية تُظهر القراءة التحليلية أن المجتمع العراقي — عبر تاريخه الحديث — أسهم موضوعيًا في توفير البيئة التي تسمح بظهور الحاكم المستبد، لكن ذلك لا يعني أن الشعب العراقي يميل جوهريًا إلى الاستبداد، بل يعني أن البنية الحضارية التي عاش ضمنها كانت مهيأة لإعادة إنتاجه. وعندما تتغير هذه البنية، يتغير السلوك السياسي تبعًا لها تلقائيًا.

الدولة الحضارية الحديثة: تجاوز نموذج الزعيم وإعادة بناء الدولة

تسعى الدولة الحضارية الحديثة إلى معالجة الأسباب العميقة لإنتاج المستبد من خلال منظومة متكاملة تهدف إلى بناء الإنسان والمؤسسات معًا، وتشمل:

 1. ترسيخ القيم العليا الاثنتي عشرة في التعليم القيمي/الحضاري بوصفها أساسًا للوعي المدني – الإنساني.

 2. تحكيم سيادة القانون بحيث يصبح القانون — لا الأشخاص — مصدر السلطة والشرعية.

 3. تقوية المؤسسات وتوزيع السلطة أفقيًا وعموديًا للحد من قدرة الفرد على احتكار القرار.

 4. إشاعة ثقافة المسؤولية بدل ثقافة الزعيم عبر الإعلام، والمناهج، والعمل العام.

 5. تجديد دوري للسلطة يمنع تراكم القوة في يد أي فرد.

 6. توحيد العقد الاجتماعي وتجاوز الانقسامات الهوياتية لصالح مفهوم المواطنة الحضارية الشاملة.

 7. تحقيق العدالة الاجتماعية لمنع نشوء القوى السياسية المرتبطة بالغضب أو النقمة أو الشعور بالظلم.

بهذه المنظومة، يصبح إنتاج المستبد أمرًا مستحيلًا بنيويًا وقيميًا وسياسيًا، وينتقل العراق من مرحلة صناعة الزعماء إلى مرحلة صناعة الدولة، وهي الخطوة المركزية في الانتقال من المجتمع التقليدي إلى المجتمع الحضاري.

اضف تعليق