الطائفية ليست مجرد خطأ سياسي أو سلوك انتخابي خاطئ؛ إنها نظام بديل عن الحضارة، نظام يعيد الإنسان إلى العصبيات الأولى، ويمنعه من الانتقال إلى حالة المواطنة والوعي والحرية. ولذلك، فإن التخلص من النهج الطائفي ليس خيارًا تجميليًا، بل هو شرط تأسيسي لكل مشروع يريد أن يبني دولة حضارية حديثة...

يُعيق النهج الطائفي بناء الدولة الحضارية الحديثة لأسباب عميقة تتعلق بطبيعة الدولة الحضارية نفسها، وبما تتطلّبه من وعي وقيم ونظام سياسي إنساني متقدّم. ويمكن تلخيص أهم الأسباب في ما يلي:

1. الطائفية تنقض مبدأ المواطنة وتستبدله بالانتماء الضيق

الدولة الحضارية الحديثة تقوم على مبدأ أنّ المواطن هو وحدة المجتمع الأساسية، بغضّ النظر عن دينه أو طائفته أو قوميته. أما النهج الطائفي، فيجعل الطائفة وليس الفرد هي وحدة الوجود السياسي، فيتحوّل الناس من مواطنين متساوين إلى جماعات متنافسة تتقاسم السلطة والمصالح.

وهذا يقوّض العدالة والمساواة والحرية، وهي من ركائز الدولة الحضارية.

2. الطائفية تُولّد الانقسام لا الوحدة

الدولة الحضارية مشروع جامع، يقوم على العيش المشترك، والتعاون، وبناء المصلحة العامة. بينما النهج الطائفي يُغذّي منطق “نحن” و”هم”، ويجعل المجتمع ساحة اصطفافات متقابلة.

مجتمع منقسم لا يستطيع أن يؤسّس دولة قوية، لأن الثقة العامة تنهار، وروح التضامن تُستبدل بالريبة والشك والخوف.

3. الطائفية تُعيد إنتاج التخلف بدل إنتاج التقدم

المشروع الحضاري هو مشروع عقل، وحرية، وإبداع، ومسؤولية. أما الطائفية، فتقوم على الاستسلام للهوية الموروثة والانغلاق على الجماعة، وتُعطّل التفكير الحر، وتُخضع الفرد لسلطة الشيخ أو الزعيم أو الرمز الطائفي.

وبذلك فإن الطائفية تجعل الإنسان يعيش داخل حدود الماضي، بينما الدولة الحضارية تدعوه إلى التوجّه نحو المستقبل.

4. الطائفية تحوّل السلطة إلى غنيمة لا إلى مسؤولية

في النظام الطائفي، السياسة تصبح نوعًا من “تقاسم الغنائم” بين الطوائف، وليس عملاً لخدمة الصالح العام. الوزارات تُمنح على أساس الانتماء، لا على أساس الكفاءة والإتقان.

فتُقتل قيمة الإبداع والإتقان والمسؤولية، التي هي من أساسيات دولة حضارية حديثة.

5. الطائفية تضعف الدولة وتُقوّي الجماعات على حساب القانون

الدولة الحضارية الحديثة تقوم على سيادة القانون الواحد على الجميع. أما النهج الطائفي، فيخلق ولاءات موازية للدولة:

ولاء للزعيم، أو للطائفة، أو للمرجعية، بحيث يصبح المواطن مستعدًا لمخالفة القانون لإرضاء طائفته.

هنا تفقد الدولة قدرتها على إدارة المجتمع، وتتحوّل إلى إطار هشّ تتحكّم به القوى الطائفية.

6. الطائفية تُعطّل القيم العليا للدولة الحضارية

الحرية، العدالة، المساواة، السلام، الإبداع، المسؤولية، التضامن… كلّها قيم لا يمكن أن تزدهر في بيئة طائفية تقوم على الخوف، الامتيازات، الاحتكار، والإقصاء.

فالطائفية تُناقض روح الحضارة في جوهرها.

الخلاصة

الطائفية ليست مجرد خطأ سياسي أو سلوك انتخابي خاطئ؛ إنها نظام بديل عن الحضارة، نظام يعيد الإنسان إلى العصبيات الأولى، ويمنعه من الانتقال إلى حالة المواطنة والوعي والحرية. ولذلك، فإن التخلص من النهج الطائفي ليس خيارًا تجميليًا، بل هو شرط تأسيسي لكل مشروع يريد أن يبني دولة حضارية حديثة.

اضف تعليق