زوال الدُّول نتيجة حتميَّة لمسار طويل من التَّضييع والغرور وسوء الاختيار؛ فالأمَّة التي تفرِّط في أصولها، وتنخدع بزينة غرورها، وتقدِّم الأراذل، وتُقصي الأفاضل، إنَّما تكتب بأيديها وثيقة فنائها، مهما امتلكت من موارد وقوَّة ظاهريَّة. والعكس صحيح، فإنَّ الأمَّة التي تحفظ قيمها وتستند إلى الحقِّ والعدل، وتُعلي من شأن الكفاءات...

حين يتحدَّث الإمام عليٌّ (عليه السلام) عن حركة التَّاريخ وسنن العمران، فإنَّ كلماته تمتدُّ في عمق الأزمنة لتغدو قوانين ثابتة لكلِّ عصر. ومن أبهى ما ورد عنه في كشف أسباب سقوط الأمم وزوال الدُّول قوله: "يُسْتَدَلُّ على إدْبارِ الدُّوَلِ بِأرْبَع: تَضييعُ الأُصولِ، والتَّمَسُّكُ بِالغُرُورِ، وَتَقْديمُ الأراذِلِ، وَتأخيرُ الأفاضلِ" (1). فهو قول يجمع في ألفاظ قليلة أوسع المعاني السياسيَّة والاجتماعيَّة، ويرسم الملامح الكبرى للمسار الذي يحوّل أي دولة، مهما بلغت من قوَّة وسطوة، إلى كيان مهدَّد بالانهيار والزَّوال إن أهملت أصولها الرَّاسخة.

والإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) في هذا الحديث يضع بين يدي الأمَّة جمعاء خريطة وعي، يبيِّن فيها أنَّ دوام الدُّول أو اندثارها خاضع لسنن لا تنفكّ، وتجري كما يجري الليل والنَّهار. وهي دعوة إلى إدراك أنَّ العمران الإنساني يقوم على أسس أخلاقيَّة وقيميَّة قبل أن يقوم على مظاهر السِّياسة والاقتصاد، وأنَّ مصير الكيانات الكبرى إنَّما يُقاس بمدى وفائها لتلك الأسس التي تضمن لها البقاء. ومن هنا يشرق الحديث الشَّريف بوصفه رسالة متجدِّدة، تُلزم الحاضر بالانتباه وتُلهم المستقبل بالحذر، مذكِّرًا كلَّ دولة أنَّ الحضارات لا تنطفئ أنوارها إلَّا حين تتخلَّى عن مقوّمات الحياة التي تحفظ عزَّتها ووجودها.

المحور الأوَّل: من إشارات الاضطراب إلى حتميَّة الزَّوال.

من خصائص كلمات الإمام علي (عليه السلام) أنَّها كلمات مقترنة بالحقِّ ولا تنفك عنه، وتبقى على مرِّ العصور زادًا للفكر التَّربوي والسِّياسي والاجتماعي. وقوله الشَّريف: "يُستدل على إدبار الدول"؛ هو مفتاح لفهم سنن الله (تعالى) في المجتمعات، وكيف تتناوب الحضارات صعودًا وهبوطًا، فلا دوام لعزٍّ، ولا خلود لسلطان، إلَّا أن يكون مبنيًّا على أساس من الحقِّ والعدل. ولفهم عمق هذا القول لا بدَّ من الوقوف أوَّلًا عند ألفاظه: "دلَّ"، "إدبار"، و"دولة"؛ إذ إنَّ كلَّ لفظة تحمل في جوفها إشارات إلى معنى عميق ينسجم مع التَّجربة التَّاريخيَّة للبشريَّة.

أمَّا "كلمة (دَلَّ) فإنَّها ترجع في أصلها إلى معنيينِ رئيسينِ: أوَّلهما الإبانة والكشف بعلامة تُعلَم ويُهتدى بها، ومنه قولهم: دللت فلانًا على الطَّريق، أي أرشدته إليه وبيَّنت معالمه. ومن هذا الباب جاءت كلمة الدَّليل، أي العلامة التي يُستدلُّ بها على الشَّيء.

وأمَّا الأصل الآخر فيعود إلى معنى الاضطراب والحركة، فيُقال: تدلْدل الشَّيء إذا اضطرب وتمايل. وقد أشار أوس بن حجر إلى هذا المعنى بقوله:

أمْ مَنْ لِحَيٍّ أَضاعوا بعضَ أمرِهُم * بين القُسوطِ وبين الدِّين دَلْدال

حيث استُعمل لفظ دلدال في معنى الاضطراب والتَّأرجح بين طريقينِ. والقُسوط يعني الجَور، أمَّا الدِّين فالمقصود به الطَّاعة والانقياد" (2). 

 وكأنَّ الاضطراب بحدِّ ذاته دلالة على التَّحول وعدم الاستقرار. ولعلَّ الإمام (عليه السلام) أشار هنا إلى أنَّ سقوط الدُّول لا يكون فجائيًا؛ بل له أمارات وعلامات تدلُّ عليه، تمامًا كما أنَّ اضطراب البناء يسبق انهياره.

وأمَّا معنى كلمة "إدبار" فإنَّ " دُبُرُ كلِّ شيءٍ: عَقِبُه ومُؤخَّرُه؛ وجمعهما أَدْبارٌ... وإِدبارُ النُّجوم: تواليها، وأَدبارُها: أَخذها إِلى الغَرْبِ للغُرُوب آخر الليل..." (3)؛ فالإدبار هو الزَّوال الذي يلي الشُّروق. وفي سياق الدُّول، الإدبار يعني تراجعها بعد تقدُّمٍ، وانكسارها بعد قوَّةٍ، وذهابها بعد حضور.

أمَّا "الدَّوْلةُ والدُّولةُ: العُقْبة في المال والحَرْب سَواء -أي أنَّ المال ينتقل من شخص لآخر أو من جماعة لأخرى فيصبح عندهم "دَولة" أو "دُولة"-، وقيل: الدُّولةُ، بالضَّم، في المال، والدَّوْلةُ، بالفتح، في الحرب، وقيل: هما سواء فيهما، يضمان ويفتحان... والجمع دُوَلٌ ودِوَلٌ... ودالَت الأَيامُ أَي دارت، والله يُداوِلها بين النَّاس... ودَوالَيْك مِنْ تَداوَلوا الأَمر بينهم يأْخذ هذا دَولة وهذا دَولة، وقولهم دَوالَيْك أَي تَداوُلًا بعد تداول... ويقال: تَداوَلْنا العملَ والأَمر بيننا بمعنى تعاوَرْناه فعَمِل هذا مَرَّة وهذا مرَّة..." (4)؛ فالإمام (عليه السلام) حين يتحدَّث عن "إدبار الدُّول"، يشير إلى نهاية حتميَّة تأتي بعد دورة من التَّداول؛ لكنَّها ليست نهاية عمياء؛ وإنَّما لها شواهد يمكن أن تُعرف وتُبصر.

وبهذا الفهم اللغوي، نستطيع أن نقرأ مقولة الإمام علي (عليه السلام) باعتبارها قانونًا تاريخيًا: الدُّول لا تسقط بلا علامات؛ وإنَّما تسبقها دلائل واضحة يلحظها من كان بصيرًا. وأنَّ الإدراك الواعي لهذه العلامات هو السَّبيل إلى الوقاية من الانهيار أو التَّمهيد لتجديد البناء.

وقد عُرف عن الإمام عليّ (عليه السلام) أنَّه واضع أسس مفهوم "السُّنَّة التاريخيَّة"، أي القوانين التي تحكم مسار المجتمعات وتوجّه حركتها عبر الزَّمن. فهو يربط بين اللغة والواقع، ويجعل من الألفاظ مفاتيح لفهم سنن العمران وسير الأحداث؛ فكلمة "دلَّ" تشير إلى وجود شواهد حسِّية ومعنويَّة تنذر ببوادر الانحطاط، وكلمة "إدبار" تكشف أنَّ الانحدار ليس إلَّا الوجه الآخر للتقدُّم إذا لم يُصَن ويُحمَ، وأمَّا كلمة "دولة" فتدلُّ على أن السُّلطة والثَّروة والهيمنة تخضع لقانون التَّداول والتَّغيُّر المستمر.

والقرآن الكريم زاخرٌ ببيان هذه القوانين الكبرى التي تحكم مصائر الأمم والدُّول؛ فقوله (تعالى): (إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِّثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ) (5)، يقرِّر أنَّ التَّداول سنَّة إلهيَّة لا تنفكّ، تتناوب فيها الأمم بين قوَّة وضعف، وعزٍّ وانكسار. وفي موضع آخر، يقول (سبحانه): (فَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَىٰ عُرُوشِهَا وَبِئْرٍ مُّعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَّشِيدٍ) (6)، ليؤكِّد أنَّ الظُّلم علامة قاطعة على بداية الإدبار والانهيار، وأنَّه مهما طال به الأمد فهو نذير خرابٍ محتوم.

ولم يكن التَّاريخ الإسلامي بعيدًا عن هذه السُّنن الحاكمة؛ فقد تهاوت دول عظيمة كالدَّولة الأمويَّة والعبَّاسيَّة، وفي عصرنا القريب انهارت دولة حزب البعث العربي الاشتراكي في العراق، بعدما استبدَّ بها الظُّلم، واستشرى فيها التَّرف، وغاب عنها العدل الذي يُشيّد العمران ويحفظ للأمم قوَّتها. وتلك الشَّواهد النَّاطقة كانت مقدِّمات الانهيار، لتؤكِّد أنَّ سنن البقاء لا تحابي أمَّة ولا تعفي دولة، وأنَّ من أعرض عنها إنَّما يستدعي بيديه حتميَّة الفناء.

ولو نظرنا إلى واقعنا المعاصر في ضوء هذا القانون لرأينا أنَّ كلَّ دولة أو نظام يمرُّ بمراحل القوَّة والضَّعف تبعًا لمدى اقترابه من سنن العدل والحقِّ أو ابتعاده عنهما؛ فإذا عمَّت الفوضى وضاع الحقُّ، بدت دلائل الإدبار واضحة للعيان، وإن تزيَّن المشهد بظاهرٍ من الاستقرار؛ فهذه السُّنن تمنح الإنسان دروسًا بليغة في اليقظة ومراقبة العلامات، وتدعوه إلى الحذر من الاغترار بالقوَّة الزَّائلة التي لا تصمد أمام نواميس التَّاريخ الثَّابتة.

إنَّ قول الإمام عليّ (عليه السلام): "يُستدلّ على إدبار الدول" خلاصة حقيقة تاريخيَّة كبرى، تثبت أنَّ سقوط الكيانات تسبقه دلائل تنذر به، وأنَّ الإدبار نتيجة حتميَّة متى غابت مقوّمات البقاء. وبهذا القول يوجّه العقول إلى قراءة العلامات وفهم اللغة الخفيَّة التي تسبق التَّحوّلات الكبرى، ليكون الإنسان بصيرًا بسنن التَّاريخ، وشاهدًا على قوانين الله (سبحانه) في الأرض، لا ضحيَّة عمياء لجريانها.

المحور الثَّاني: (تضييع الأصول) بداية الانهيار.

إنَّ تضييع الأصول هو العلَّة الكبرى التي تُنذر بانحسار سلطان الدَّولة وتصدُّع أركانها، وإذا شبَّهنا الدَّولة ببناءٍ سامق، كانت أصولها بمثابة الأعمدة الرَّاسخة التي يستند إليها، فإذا تهاوت تلك الأعمدة، لم يكن مستغربًا أن ينهار السَّقف وينقضّ على رؤوس الجميع. 

و"إِضاعة المال يعني إِنْفاقَه في غير طاعة اللَّه والتَّبذير والإِسرافِ، وأَنشد ابن بري:

أَضاعُوني: وأَيَّ فَتًى أَضاعُوا * لِيَوْمِ كَرِيهةٍ وسِدادِ ثَغْرِ

وفي حديث سعد: إِني أَخافُ على الأَعناب الضَّيْعةَ أَي أَنها تضيع وتتلَف.

والضَّيْعةُ في الأَصل: المرَّة من الضِّياعِ، والضَّيْعةُ والضِّياعُ: الإِهمالُ.

ضاعَ الشَّيءُ يَضِيعُ ضَيْعةً وضَياعاً، بالفتح: هلك..." (7). 

بينما الأصول في اللغة: "جمع أصل وهو أسفل الشَّيء وأساسه، وعلى هذا نصَّت كثير من كتب اللغة" (8). وعليه، فإنَّ مفهوم "تضييع الأصول" يشير إلى تخلي الدَّولة عن ركائز وجودها وإهمال المقومات الجوهريَّة التي تشكِّل عمودها الفقري في مواجهة الأزمات والحفاظ على استقرارها.

وقد أشار الإمام عليّ (عليه السلام) إلى حقيقة أنَّ الانهيار يبدأ من الدَّاخل قبل أن يظهر من الخارج؛ لذلك كان تضييع الأصول العلامة الأولى على سقوط الدُّول؛ فالأصول التي تنهض بها الأمم منظومة قيم ومبادئ تتجسَّد في العدل الذي يحفظ الحقوق ويصون الكرامات، والقانون الذي ينظِّم العلاقات ويمنع الفوضى، والأمن الذي يحمي المجتمع من الانهيار، والعلم والاقتصاد اللذان يمدَّان الأمَّة بقوّتها وتطورها؛ فإذا تهاونت الدَّولة في هذه الأسس الجوهريَّة وانشغلت بالمظاهر والشعارات، سرعان ما تضعف من داخلها وتفقد مناعتها، ثمَّ تصبح عاجزة أمام الأزمات حتَّى ينهار بنيانها فجأة ومن حيث لا تشعر.

وعبر التَّاريخ نجد أنَّ الدُّول العظمى لم تسقط في الغالب بسبب قوَّة أعدائها بقدر ما انهارت بسبب إهمالها لأصولها التي ترتكز عليها؛ فالفساد الذي ينخر جسد المؤسسات، وتجاهل العدالة الاجتماعيَّة، والانغماس في التَّرف واللهو، كلها صور من صور تضييع الأصول التي مهَّدت الطَّريق لزوال حضارات عظيمة، وصولًا إلى غيرها من القوى التي ظنَّت أنَّ سلطانها دائم، فإذا بها تتلاشى أمام أوَّل ريح عاتية.

أمَّا في واقعنا المعاصر، فإنَّ مؤشرات تضييع الأصول تظهر بوضوح، مثل تغليب المصالح الحزبيَّة أو الشَّخصيَّة على المصلحة العامَّة، وإهمال التَّعليم والصحة والعدالة، معتبرةً إيَّاها ملفات ثانوية أمام صراعات السُّلطة. وهذه الممارسات جرس إنذار على طريق الأفول، تمامًا كما وصف الإمام علي (عليه السلام).

إنَّ الدول التي تدرك قيمة الأصول وتحرص على صيانتها، تظلُّ قويَّة في مواجهة العواصف؛ لأنَّها تستند إلى جذور متينة مهما اشتدت الأزمات. وأمَّا التي تضيِّع أصولها، فإنَّها كمن يقطع الجذور وهو يظن أنَّ الشَّجرة ستظل خضراء إلى الأبد، وما هي إلَّا مسألة وقت حتَّى تجف الأغصان وتسقط الثِّمار.

المحور الثَّالث: (التمسك الغرور) مصيدة الحضارات.

الغرور ليس صفة فردية تُضلِّل الإنسان في مسيرته، إنَّه علَّة اجتماعيَّة خطيرة، فإذا تسلَّل إلى جسد الدَّولة صار نذيرًا بسقوطها. وقد جاء في اللغة: "غَرّه يغُرّه غَرّا وغُرُورا وغِرّة...، فهو مَغرور، وغَرير: خَدعه وأطمعه بالباطل... والغَرُور: ما غَرّك، من إنسان أو شيطان أو غيرهما... وقوله (تعالى): (وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ) (9)؛ قال الزَّجاج: ويجوز "الغُرور" بضم الغين؛ وقال في تَفسيره: الغُرور: الأباطيل.

ويجوز أن يكون "الغُرور" جَمع: غارّ، مثل: شاهد وشهود؛ وقاعد وقعود.

والغَرُور: الدُّنيا، صفة غالبة..." (10).

والغرور اصطلاحًا: "كل ما يغر الإنسان من مال وجاه وشهوة وشيطان" (11).

وهنا أشار الإمام علي (عليه السلام) إلى الغرور باعتباره إحدى العلامات الكبرى لانحدار الدُّول؛ إذ لا يقتصر على سلوك حاكم مغرور؛ بل يشمل الحالة العامَّة التي تصيب الأمم حين تظن أنَّ سلطانها باقٍ لا يزول. وتظهر هذه العلَّة في صور متعدِّدة، كالإفراط في استعراض القوَّة العسكريَّة على حساب البناء العلمي والاقتصادي، أو الاكتفاء بالتَّفاخر بالشعارات والإنجازات الشكليَّة مع إهمال الأزمات العميقة التي تنخر أساس الدَّولة.

ولعلَّ أخطر ما يهدد الدُّول حين تنغلق الأجهزة على ذاتها وتظن أنَّ قراراتها صائبة بالضَّرورة، فترفض النَّقد وتقصي الكفاءات وتكتفي بأصوات الموالين. وعندئذ تصبح الدَّولة عمياء عن واقعها، غير قادرة على التَّكيف مع المتغيرات، وتسير واثقة بخطى ثابتة نحو هاوية حتميَّة. وهذا الغرور يغريها بتجاهل الفجوات الاجتماعيَّة والاقتصاديَّة، فتُخفيها وراء أرقام منمقة وتقارير مزينة، بينما تتآكل ثقة النَّاس بها حتَّى ينفرط عقد الدَّولة من داخله.

وقد لخَّص الإمام علي (عليه السلام) حقيقة هذا المسار بقوله: "سُكْرُ الْغَفْلَةِ وَالْغُرُورِ أَبْعَدُ إِفَاقَةً مِنْ سُكْرِ الْخُمُورِ" (12)؛ فالمغرور يظل في حالة من عمى البصيرة يصعب عليه أن يفيق منه حتَّى إذا أدرك الهلاك كان قد فات الأوان. وقال (عليه السلام): " زَرَعُوا الْفُجُورَ وسَقَوْه الْغُرُورَ وحَصَدُوا الثُّبُورَ" (13)، ليتَّضح أنَّ الغرور هو ماء يروي الفساد حتَّى يشتدَّ ويثمر خرابًا ودمارًا.

وأمَّا الدَّولة التي تتجنب الغرور وتتخذ من التَّواضع منهجًا تظلُّ قادرة على المراجعة الدَّائمة، والاعتراف بأخطائها، والاستماع للنقد البنَّاء. والتَّواضع هنا هو عين القوَّة؛ لأنَّه وعي بالحدود وإدراك للحاجة المستمرة للعلم والخبرة. وهذه الدَّولة تظل متفاعلة مع تحديات العصر، متوازنة بين قوَّتها العسكريَّة واقتصادها، وبين إنجازاتها الخارجيَّة وصلابتها من الدَّاخل.

المحور الرَّابع: عاقبة (تقديم الأراذل).

كلمات أمير المؤمنين علي (عليه السلام) في تشخيص مسار الدُّول تمثِّل قوانين كبرى تكشف حقائق التَّاريخ وسنن الاجتماع الإنساني، لا مجرَّد مواعظ تقال للعِظة. فهي حكم بليغة تختزن قوانين سياسيَّة وأخلاقيَّة عميقة، وتُبرز أنَّ من أوضح دلائل انحدار الدُّول أن يُمكَّن الأراذل من مواقع القرار ويُقصى عنها أهل الفضل والكفاءة.

وقد ورد في اللغة: "أقدَمَ فلانٌ على قِرْنِه إقداماً وقُدْماً ومُقْدَماً: إذا تَقدّم عليه بجرأة صَدْرِه.

وضِدُّه الإحجام..." (14).

وأمَّا الأراذل و"الأرذلون هم أهل الضعة والخساسة.

والأراذل جمع الأرذل وهو النَّاقصون الاقدار.

ومنه (أراذلنا)؛ أي ناقصوا الأقدار فينا.

والأراذل: جمع الرذل أيضاً وهو النذل وهو الدون الخسيس.

وقد رذل فلان بالضم يرذل رذالة فهو رذل ورذال بالضم، من قوم رذول وأرذال ورذلاء ورذلة" (15).

وقد ورد ذكر الأراذل في القرآن الكريم في مواضع متعددة؛ منها قوله (تعالى) على لسان قوم نوح (عليه السلام): (مَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ) (16)؛ أي الذين اعتبروهم ناقصي القدر والمكانة. كما قال (سبحانه): (وَمِنكُم مَّن يُرَدُّ إِلَىٰ أَرْذَلِ الْعُمُرِ) (17)، في إشارة إلى حال الضَّعف. وعليه، فالأراذل في الغالب هم في أصل اللغة من اتَّصفوا بالنقصان والمهانة، والذين لا يصلحون لقيادة أو ريادة.

وحين تحدَّث الإمام علي (عليه السلام) عن تقديم الأراذل، لم يكن كلامه منصرفًا إلى حالات فرديَّة، فهو يشير إلى ظاهرة اجتماعيَّة خطيرة تصيب الدُّول عندما تُمكَّن الفئات الرَّديئة من تولي زمام السُّلطة؛ فالأراذل غالبًا ما يسعون وراء مصالحهم الشَّخصيَّة الضيِّقة، وغير معنيين بالمصلحة العامَّة. وإذا تقلَّدوا المناصب الحسَّاسة، أصاب مؤسسات الدَّولة الوهن، وانتشر فيها الفساد والإهمال، حتَّى تصبح عاجزة عن أداء وظائفها الضَّروريَّة؛

قال أمير المؤمنين (عليه السلام): "إذَا مَلَكَ الأرَاذِلُ هَلَكَ الأفَاضِلُ" (18)؛ فحين يُرفع من لا خُلُق له ولا نزاهة، تسود ثقافة التسيّب والانتهازية، ويغدو القانون لعبة بأيدي فاقدي الضَّمير. وعندما تُدار مؤسسات الدَّولة بعقلية المكاسب العاجلة والنُّفوذ الشَّخصي، فيضيع الانضباط، وتتبدد الموارد، ويضعف البناء الاقتصادي والاجتماعي والسياسي. وهناك تتحقق نبوءة الإمام (عليه السلام): الأفاضل يُقصَون ويُهمَّشون، والكفاءات الصَّالحة تُستبعَد، لتُفسح السَّاحة للرَّذائل وأهلها، وهو الطَّريق الأسرع إلى سقوط الدُّول وانهيار حضارتها.

وتاريخ الأمم شاهد على هذه الحقيقة. فكم من دولة عظيمة أُهملت فيها الكفاءات وأُقصيت العقول، ليُقدَّم بدلًا عنها أهل الطَّمع والخيانة، فلم تلبث أن ضعفت وتفككت؛ ومن هذا المنطلق فإنَّ معيار قوَّة الدَّولة وبقائها ليس في وفرة مواردها فقط؛ وإنَّما في حسن اختيار من يتولَّى إدارتها؛ فالكفاءة والأمانة هما الرَّكيزتان اللتان أكَّد عليهما الإسلام؛ إذ قال الله (تبارك وتعالى): (إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ) (19). فإذا أُهمل هذا المبدأ، وقدِّم الأراذل على حساب الأكفاء، تهاوت أركان الدَّولة تدريجيًا، حتَّى تصل إلى إدبارها الكامل.

المحور الخامس: (تأخير الأفاضل) واحتضار الدُّول.

حين تحدَّث الإمام علي (عليه السلام) عن علامات إدبار الدُّول، لفت الأنظار إلى أمر في غاية الأهميَّة والخطورة، وهو (تأخير الأفاضل)؛ إذ اعتبر أنَّ تهميش أهل الفضل والكفاءة وإبعادهم عن مواقع القيادة من أبرز مؤشِّرات الانحطاط السياسي والاجتماعي الذي يمهّد لسقوط الدول وزوالها.

"والتَّأخر ضد التَّقدُّم، وقد تأخر عنه تأخرا وتأخرة واحدة" (20)، وأمَّا "الفضل والفضيلة معروف: ضد النَّقص والنَّقيصة" (21).

إنَّ هذا التَّعبير الموجز يختزل مأساة كبرى قد تعيشها الأمم؛ فالأفاضل هم رأسمال الأمَّة الحقيقي، يشكِّلون عقلها المدبّر وضميرها الحيّ. والتَّأخير لا يقتصر على إقصائهم عن مواقع القيادة، ويشمل تهميش دورهم، وإسكات أصواتهم، وإفراغ حضورهم من التَّأثير. وإذا حصل هذا الخلل، يكون ذلك مؤشرًا على أنَّ جسد الدَّولة بدأ يضعف من الدَّاخل، مهما بدا قويًا من الخارج.

إنَّ تأخير الأفاضل يضعف أجهزة الدَّولة ويُعطِّل مسارها الطَّبيعي نحو التَّطور؛ فالدَّولة التي تُقصي علمائها ومفكريها وأصحاب الرأي الحرّ، إنَّما تكمِّم الأفواه التي كان يمكن أن تنبِّهها إلى الأخطاء، وتحجب عنها العقول التي تستطيع أن تبتكر الحلول. وبهذا تُفقد الدَّولة قدرتها على الإصلاح الذَّاتي، فتغرق في الأخطاء المتكررة. وفي المقابل، نجد أنَّ الدُّول التي منحت مكانة للأفاضل واحتضنت العقول والكفاءات، استطاعت أن تبني حضارات راسخة وأن تواجه أصعب الأزمات.

ولا يتوقف الأمر عند حدود السِّياسة والإدارة؛ وإنَّما يمتد إلى المجتمع نفسه؛ فإذا رأى النَّاس أنَّ المخلصين لا مكان لهم، وأنَّ أصحاب النَّزاهة يُستبعدون ويُهمَّشون، فسوف يفقدون الثقة في الدَّولة ومؤسساتها. وأمَّا أصحاب الكفاءة الذين حُرموا من مواقع التَّأثير، فإنَّ الإحباط واليأس يتسرَّب إلى نفوسهم، فتذبل المبادرات ويخفت بريق العطاء، ويُفسح المجال للأراذل والفاسدين كي يتسيَّدوا. وهكذا، يتكرَّس منطق الانتهازية على حساب التَّضحية، ويُستبدل العمل للصالح العام بالبحث عن مصالح شخصيَّة ضيِّقة، فيتحوَّل البناء العام إلى خراب بطيء.

لقد شهد التَّاريخ مرارًا وتكرارًا هذه الظَّاهرة؛ فالدَّولة العبَّاسيَّة، مثلًا، حين همَّشت الأئمة المعصومين (عليهم السلام) وكبار العلماء والمصلحين في بعض مراحلها، وسمحت للمقرَّبين والمنتفعين أن يتقدَّموا، غرقت في صراعات داخليَّة وأزمات أضعفتها حتَّى تهاوت. وكذلك دول أخرى في الشَّرق والغرب، ما إن غاب عنها مبدأ "الرَّجل المناسب في المكان المناسب"، حتَّى صارت عاجزة عن مواجهة تحدياتها الدَّاخليَّة والخارجيَّة، ووجدت نفسها تفقد مكانتها بين الأمم.

إنَّ الدَّرس الذي يقدِّمه لنا هذا الحديث الشَّريف لا يقتصر على الحكَّام وحدهم؛ وإنَّما يشمل الأمَّة بأكملها؛ فالمجتمع الذي يقبل بتهميش أفاضله ولا يدافع عن مكانتهم، يشارك في صناعة زواله. وعلى الشُّعوب أن تدرك أنَّ بقاءها مرهون بتمكين الأكفاء من إدارة شؤونها، وأنَّ إقصاء المخلصين هو بداية النِّهاية لكلِّ أمل في الاستقرار والازدهار. وهو، بحسب التَّعبير العلوي البليغ، علامة لا تخطئها العين على أنَّ الدَّولة قد دخلت طور الإدبار. والحلّ الوحيد لتجنُّب هذه النِّهاية المحتومة هو إعادة الاعتبار للأفاضل، وتقديم الكفاءة على المحسوبيَّة، والفضيلة على الولاء الأعمى، والعلم على الجهل.

وبعد هذا الرحلة مع كلمات أمير المؤمنين علي (عليه السلام) ...

 ندرك أنَّ زوال الدُّول نتيجة حتميَّة لمسار طويل من التَّضييع والغرور وسوء الاختيار؛ فالأمَّة التي تفرِّط في أصولها، وتنخدع بزينة غرورها، وتقدِّم الأراذل، وتُقصي الأفاضل، إنَّما تكتب بأيديها وثيقة فنائها، مهما امتلكت من موارد وقوَّة ظاهريَّة. والعكس صحيح، فإنَّ الأمَّة التي تحفظ قيمها وتستند إلى الحقِّ والعدل، وتُعلي من شأن الكفاءات والأفاضل، وتبقى متواضعة أمام الحقائق، فإنَّها ترسِّخ لنفسها دعائم البقاء وتضمن استمراريَّة عزِّها. 

إنَّها دعوة متجددة لنا اليوم لنتأمل تاريخنا وحاضرنا بعين بصيرة، ونتعلَّم من تجارب من سبقونا، فنسعى لحفظ أصولنا، وتطهير نفوسنا من الغرور، ورفع الأكفاء، وإنصاف الأفاضل، لنصنع بأيدينا مستقبلًا مشرقًا يليق بعظمة ديننا الإسلامي.

.........................................

الهوامش:

1. غرر الحكم ودرر الكلم: ص٨٠٠؛ تصنيف غرر الحكم ودرر الكلم: ص٣٤٢.

2. ينظر: معجم مقاييس اللغة: ج٢، ص٢٥٩.

3. لسان العرب: ج٤، ص٢٦٨.

4. المصدر نفسه: ج11، ص253.

5. سورة آل عمران/ الآية:140.

6. سورة الحج/ الآية: 45.

7. لسان العرب: ج٨، ص٢٣١.

8. ينظر: المقاييس في اللغة، مادة "أصل"، ص79؛ لسان العرب، مادة "أصل".

9. سورة لقمان/ الآية: 33.

10. المحكم والمحيط الأعظم: ج٥، ص٣٦٠.

11. مفردات ألفاظ القرآن: ص٦٠٤.

12. تصنيف غرر الحكم ودرر الكلم: ص٢٦٦.

13. شرح نهج البلاغة، ابن أبي الحديد: ج١، ص1٣٨.

14. تهذيب اللغة: ج٩، ص٥٦.

15. مجمع البحرين: ج٢، ص١٧١.

16. سورة هود/ الآية: 27.

17. سورة النحل/ الآية: 70.

18. غرر الحكم ودرر الكلم: ص٢٨٤.

19. سورة القصص/ الآية: 26.

20. لسان العرب: ج٤، ص١٢.

21. المصدر نفسه: ج11، ص194.

اضف تعليق