إن علم الأحياء البنيوي قد انتقل من مرحلة إثبات الذات إلى مرحلة التطبيق العملي التي تنطوي على العديد من الابتكارات، مثل طرح أدوية جديدة ومواد مستدامة واستحداث تقنيات مناخية ذكية. إضافة إلى ذلك، فإننا في العالم العربي نمتلك المواهب والموارد الطبيعية والطموح الإستراتيجي اللازم للاستفادة من هذه الموجة الناشئة من التقنيات الحيوية...

بفضل موجة ناشئة من الأبحاث في مجال الأحياء البنيوية، نجح العلماء في تحويل خلايا حية إلى أجهزة قابلة للبرمجة، وهو ما يفتح الباب أمام تطوير أدوية ومواد وحلول مناخية إقليمية. يشير مصطلح علم الأحياء البنيوي الذي يعرف اختصارًا بـ SynBio إلى تخصص علمي ناشئ يركز على إعادة برمجة المواد الجينية للخلايا وهندستها بحيث تتحول إلى أجهزة حيوية حوسبية قابلة للتحكم. 

من هذا المنطلق يدمج علم الأحياء البنيوي في جوهره ما بين الحوسبة والهندسة من ناحية وبين البيولوجيا الجزيئية من ناحية أخرى بهدف إنشاء تطبيقات تعمل بدقة عالية وتحقق نتائج متوقعة.

جدير بالإشارة أن البرمجة والتصميم يمثلان عنصرين أساسيين من عناصر علم الأحياء البنيوي، ويرتكز المبحثان على مفهوم أساسي يتمثل في قابلية الخلايا للبرمجة والهندسة. تشير آلية عمل الخلايا إلى أنها لا تتوقف عن إجراء الحسابات على مدار الساعة؛ إذ تعمل على معالجة المدخلات البيئية من خلال "خوارزميات حيوية" مُرمَّزة بالحمض النووي، ومن ثمَّ تُنتج مخرجات قابلة للقياس.

من الأمثلة التقليدية على الحوسبة المذكورة عملية أيض اللاكتوز لدى بكتيريا الإشريكية القولونية Escherichia coli؛ إذ تمتص خلايا ذلك الكائن المجهري السكر بوصفه مدخلًا، ثم يستشعر الحمض النووي اللاكتوز المُدخَل فتنطلق الإنزيمات المعنية بعملية الأيض، وفي النهاية تُنتَج المخرجات المتمثلة في الطاقة واللاكتات. كذلك يمكن للخلايا أداء وظيفة الدالة المنطقية "AND" في بعض الحالات، على غرار ما تقوم به أجهزة الكمبيوتر.

كان ذلك التلاقي بين أجهزة الكمبيوتر والخلايا بمثابة مصدر الإلهام الذي انطلقت منه بدايات علم الأحياء البنيوي في أوائل العقد الأول من القرن الحالي، وذلك عندما نجح الباحثان جيمس كولينز ومايكل إلويتز في بناء دوائر من الجينات والجزيئات لمحاكاة الدوائر الإلكترونية المكونة من ترانزستورات وأسلاك. نجح الباحثان في نمذجة سلوك هذه الدوائر الجينية وبدأت بالفعل في العمل على النحو المتوقع. كان لهذا الابتكار أثر بالغ تمثل في التشجيع على تطوير مجموعة متنوعة من التطبيقات الأخرى، من بينها أجهزة استشعار للكشف عن المواد المتفجرة وعلاجات محتملة لمرض السرطان.

إذا انتقلنا إلى مسألة التصميم، فسنجد أن الجينات تتكون من أجزاء يمكن توصيفها وتوحيدها وفهرستها. وقد أتاح ذلك للعلماء القدرة على تصميم جينوم ميكروبي مكتمل وفعال وتوليفه بحيث يكون له تأثير على عمل الخلايا شبه الاصطناعية الكاملة. يستخدم الباحثون هذه التقنية على سبيل المثال لدمج الأحماض الأمينية غير الطبيعية في بروتينات مخلقة لأغراض علاجية محتملة.

كان هذا المفهوم في الأصل هو الأساس الذي اعتمد عليه لقاح كوفيد-19 القائم على الحمض النووي الريبي المرسال mRNA. كذلك تشمل النواتج الأخرى لعلم الأحياء البنيوي «إمليجيك» Imlygic، وهو دواء مُعتمَد لعلاج سرطان الجلد يقوم في تركيبه على استخدام فيروسات مُحلِّلة للأورام؛ و«أرتيميسينين» artemisinin، وهو مُركَّب مُنتَج من الخميرة لعلاج الملاريا؛ وتشمل أيضًا الحرير الصناعي؛ والمواد البلاستيكية الحيوية؛ والبرجر الخالي من اللحوم. تتراوح الطموحات الراهنة لهذا العلم حاليًّا ما بين إعادة الكائنات القديمة المنقرضة إلى الحياة وإطالة عمر الإنسان.

ومن أجل الاستفادة من الإمكانات الهائلة التي ينطوي عليها هذا العلم، أنشأتُ مختبر علم الأحياء البنيوي بجامعة المنصورة في مصر. ومن خلال العمل مع شركاء دوليين في جميع أنحاء العالم، تمكنَّا من ابتكار نوع غير تقليدي من الخميرة لغرض إنتاج «البيسابولين» bisabolene، وهي مادة صيدلانية أساسية وعنصر أولي في صناعة الوقود الحيوي. يركز عملنا الحالي على هندسة الخميرة لإنتاج بروتين الحليب، والاستفادة من إنزيمات «كريسبر» CRISPR في التلاعب بالجينات، وتطوير أجهزة استشعار حيوية للكشف عن مسببات الأمراض.

إضافة إلى ذلك، تعمل فرق بحثية متخصصة بجامعة الملك عبد الله للعلوم والتقنية (كاوست) في المملكة العربية السعودية على تطوير تطبيقات أخرى لعلم الأحياء البنيوي؛ ويشمل ذلك هندسة كائنات مجهرية قادرة على القيام بعملية التمثيل الضوئي، مثل الطحالب، من أجل استحداث عمليات موفرة للموارد لأغراض احتجاز الكربون والتصنيع الحيوي وغيرهما من التطبيقات البيئية الأخرى.

بناء على ما تقدم، يمكننا القول بأن علم الأحياء البنيوي قد انتقل من مرحلة إثبات الذات إلى مرحلة التطبيق العملي التي تنطوي على العديد من الابتكارات، مثل طرح أدوية جديدة ومواد مستدامة واستحداث تقنيات مناخية ذكية. إضافة إلى ذلك، فإننا في العالم العربي نمتلك المواهب والموارد الطبيعية والطموح الإستراتيجي اللازم للاستفادة من هذه الموجة الناشئة من التقنيات الحيوية.

وأخيرًا، فمن خلال الاستثمار في برامج بحثية هادفة وموجهة، وتطوير شبكات تعاون بحثي، وتدريب الجيل القادم من علماء الأحياء البنيوية، يمكن للمنطقة بأكملها تحويل العلوم المتطورة إلى صناعات عالية القيمة وحلول نابعة من بيئاتنا المحلية بهدف التصدي للتحديات البيئية والصحية الملحة في وقتنا الحاضر.

اضف تعليق