ان التدريب على الخطابة أو التحدث العلني يمكن أن يقلل من تأثير وهم الشفافية بشكل كبير. يعود ذلك إلى أن التدريب المستمر يساعد الفرد على زيادة ثقته بنفسه وتحسين مهاراته التواصلية، مما يقلل من الشعور بالقلق والارتباك أثناء التحدث أمام الجمهور...
في زمنٍ تتشابك فيه الضغوط النفسية مع التحديات الاجتماعية، وتتعاظم فيه أهمية فهم الذات والتعبير عنها، يبرز علم النفس كأداة جوهرية لتحليل السلوك البشري وتفكيك الظواهر التي تؤثر في تفاعلاتنا اليومية. ومن بين هذه الظواهر التي كثيرًا ما تمر بنا دون وعي أو إدراك، تأتي ظاهرة "وهم الشفافية"، التي تجعل الفرد يعتقد أن مشاعره وانفعالاته الداخلية مكشوفة وواضحة للآخرين، حتى عندما لا تكون كذلك. هذا الإدراك المضلل كثيرًا ما يرتبط بحالات من التوتر، والحرج الاجتماعي، وضعف الثقة بالنفس، وخاصة في المواقف التي تتطلب التحدث أمام جمهور أو التعبير عن الرأي.
في هذا السياق، نحاور اليوم الباحثة هاجر عقيل كاظم الشمري، طالبة الماجستير في قسم علم النفس بكلية الآداب – جامعة بغداد، التي اختارت أن تتناول في رسالتها الجامعية موضوعًا غاية في الدقة والأهمية، بعنوان: "وهم الشفافية وعلاقته بقلق التحدث"، في محاولة لفهم كيف تؤثر هذه الظاهرة على الأفراد، وخاصة في البيئات الأكاديمية والشبابية، حيث يشكّل التحدث أمام الآخرين تحديًا نفسيًا كبيرًا للعديد من الطلبة والطالبات.
في هذا اللقاء، نسلّط الضوء على دوافع اختيار الباحثة لهذا الموضوع، والخلفية النظرية التي انطلقت منها، والمنهج العلمي الذي اعتمدته في بحثها، والنتائج التي توصلت إليها من خلال الدراسة الميدانية. كما نناقش معها كيف يمكن استخدام هذه النتائج في تطوير برامج الدعم النفسي، وبناء استراتيجيات لمواجهة قلق التحدث، خاصة في المراحل التعليمية التي تتطلب مهارات تواصل فعّالة.
كما تفتح الباحثة أمامنا نافذة على تجربتها الشخصية والبحثية، بما في ذلك التحديات التي واجهتها، والدروس التي استخلصتها من هذه الرحلة العلمية، في سبيل خدمة المجتمع الأكاديمي والنفسي في العراق والمنطقة.
دعونا نغوص معًا في تفاصيل هذا الحوار العميق، لفهم أحد الأوهام النفسية التي قد تكون أكثر شيوعًا وتأثيرًا مما نظن.
كيف بدأتِ الاهتمام بموضوع "وهم الشفافية"؟ وما الدافع الأساسي وراء اختيار هذا الموضوع بالذات؟
بدأ اهتمامي بموضوع “وهم الشفافية” نتيجة بأنه يمثل خطأً شائعاً في الإدراك، حيث يعتقد الأفراد أن مشاعرهم وأفكارهم الداخلية واضحة جداً للآخرين، في حين أن الواقع يثبت عكس ذلك هذا التحيّز المعرفي جذبني لأنه يكشف الكثير عن طبيعة التواصل البشري، ويفسّر أسباب سوء الفهم في المواقف الاجتماعية، الدافع الأساسي لاختياري لهذا الموضوع هو رغبتي في تسليط الضوء على هذه الظاهرة النفسية، وكيف يمكن أن تؤثر على التفاعل بين الأفراد، سواء في الحياة اليومية أو في البيئات المهنية، مما يجعل فهمها أمراً مهماً لتطوير مهارات التواصل والوعي الذاتي.
ما الذي جذبكِ للربط بين وهم الشفافية وقلق التحدث أمام الجمهور؟ هل لاحظتِ هذه الظاهرة في البيئة الجامعية؟
ما جذبني للربط بين “وهم الشفافية” وقلق التحدث أمام الجمهور هو أن كليهما يرتبطان بالإدراك الذاتي وكيفية تصور الفرد لنفسه في نظر الآخرين، الأفراد الذين يعانون من قلق التحدث أمام الجمهور غالباً ما يعتقدون أن توترهم أو ارتباكهم ظاهر بوضوح للحضور، وهذا يتوافق تماماً مع مفهوم وهم الشفافية، وهذا الربط أصبح واضحاً لي من خلال ملاحظتي لزملاء في البيئة الجامعية حيث كثيراً ما يُعبّر الطلبة عن خوفهم من أن يُلاحظ الجمهور تلعثمهم أو قلقهم، رغم أن الحضور قد لا ينتبه لذلك فعلياً. لذلك، فإن فهم وهم الشفافية يمكن أن يساعد في تقليل هذا النوع من القلق من خلال إدراك أن الآخرين لا يدركون مشاعرنا الداخلية بنفس الوضوح الذي نتخيله.
من خلال تجربتكِ، هل تعتقدين أن وهم الشفافية ظاهرة شائعة لدى الطلبة الجامعيين؟
نعم، من خلال تجربتي أعتقد أن وهم الشفافية يُعدّ ظاهرة شائعة بين الطلبة الجامعيين، خاصة في المواقف التي تتطلب التواصل العلني أو الأداء أمام الآخرين، مثل العروض التقديمية أو النقاشات الصفّية. الكثير من الطلبة يظنون أن مشاعر التوتر أو القلق التي يمرون بها تكون واضحة للآخرين، مما يزيد من شعورهم بالإحراج والضغط النفسي. هذه القناعة الخاطئة تنعكس سلباً على ثقتهم بأنفسهم وأدائهم الأكاديمي. ومن خلال ملاحظتي، فإن الوعي بهذه الظاهرة وتفسيرها نفسياً يساعد الطلبة على إعادة تقييم نظرتهم لذاتهم أثناء التفاعل مع الآخرين، ويقلل من تأثير القلق الاجتماعي المرتبط بها.
اعتمدتِ في بحثكِ على مقياسين نفسيين؛ أحدهما تبنيته والآخر أعددته، فكيف تأكدتِ من صدق وثبات هذه الأدوات؟
تم تبنّي مقياس وهم الشفافية، وقد تمّت ترجمته من اللغة الأصلية باتباع إجراءات الترجمة العلمية المعتمدة، والتي شملت الترجمة الأولية، والترجمة العكسية، والمقارنة بين النسختين لضمان صدق الترجمة. بعد ذلك، عُرض المقياس بصيغته المترجمة على مجموعة من الخبراء والمحكمين المختصين في علم النفس للتحقق من صدق المقياس. وبتطبيقه على عينة استطلاعية، أظهرت النتائج من خلال الإجراءات الإحصائية الدقيقة أن المقياس يتمتع بدرجة عالية من الصدق، كما بيّنت معاملات الثبات (معامل ألفا كرونباخ) أن فقراته تتسم بالاتساق الداخلي والثبات.
أما بالنسبة لمقياس قلق التحدث، فقد تمّ إعداده استنادًا إلى الأبعاد النظرية التي تفسّر المفهوم بحسب النظرية المتبنّاة. وتم بناء فقراته بعناية لتغطية هذه الأبعاد، ثم عُرض المقياس على لجنة من الخبراء في قسم علم النفس لمراجعة فقراته وتقييم مدى ملاءمتها وسلامتها المفهومية واللغوية. وقد خضع المقياس لاحقًا لتحليل إحصائي للتحقق من صدق البناء والثبات الداخلي، وأظهرت النتائج أن المقياس يتمتع بخصائص سيكومترية جيدة، مما يؤهله للاستخدام في أغراض البحث.
لماذا اخترتِ عينة من المرحلتين الثانية والرابعة تحديدًا؟ وهل كنتِ تتوقعين وجود فروق واضحة بينهما؟
اخترت عينة من طلبة المرحلتين الثانية والرابعة لعدة اعتبارات بحثية ومنهجية. المرحلة الثانية تمثّل فئة ما زالت في بداية تجربتها الجامعية، وغالباً ما تكون أقل خبرة في التعامل مع المواقف الاجتماعية والأكاديمية، مما قد يجعلها أكثر عرضة لوهم الشفافية وقلق التحدث أمام الجمهور. أما المرحلة الرابعة، فتمثّل طلبة على وشك التخرج، يفترض أن تكون لديهم خبرات تراكمية ومهارات تواصل أكثر تطوراً.
كنت أتوقع وجود فروق بين المجموعتين، بناءً على الفروق في مستوى النضج الأكاديمي والاجتماعي. حيث افترضت أن طلبة المرحلة الرابعة قد يظهرون مستويات أقل من وهم الشفافية، نتيجة تعرّضهم لمواقف تواصل متعددة خلال سنوات الدراسة، مقارنة بطلبة المرحلة الثانية الذين ما زالوا في طور التكيف مع البيئة الجامعية.
ما أبرز التحديات التي واجهتكِ خلال جمع البيانات من الجامعات؟ وكيف تعاملتِ مع حالات القلق أو عدم التعاون من الطلبة؟
من أبرز التحديات التي واجهتني أثناء جمع البيانات من الجامعات كانت محدودية تعاون بعض الطلبة، خاصة في بداية عملية التوزيع، حيث أبدى بعضهم تردداً أو قلقاً بشأن طبيعة الأسئلة أو مدى سرية الإجابات. كما واجهت تحديات تنظيمية تتعلق بتنسيق الوقت مع المحاضرات وإقناع الأساتذة بمنحي الفرصة لجمع البيانات داخل القاعات الدراسية.
وللتعامل مع هذه التحديات، حرصت على شرح أهداف البحث بشكل مبسّط وواضح للطلبة، وأكدت لهم أن جميع البيانات تُستخدم لأغراض علمية فقط وتُعامل بسرية تامة دون ذكر أسمائهم أو أي معلومات شخصية. كما استخدمت أسلوباً يشجع على المشاركة الطوعية، وحرصت على خلق بيئة مريحة تشجع على التعاون، مما ساعد في تقليل القلق وزيادة الاستجابة.
توصلتِ إلى أن الإناث أكثر تعرضًا لوهم الشفافية وقلق التحدث. برأيك، ما الأسباب النفسية أو الاجتماعية لذلك؟
توصلت في نتائج البحث إلى أن الإناث أكثر عرضة لوهم الشفافية وقلق التحدث أمام الجمهور، وهو ما يمكن تفسيره من خلال مجموعة من العوامل النفسية والاجتماعية. من الناحية النفسية، تشير الدراسات إلى أن الإناث غالباً ما يمتلكن مستوى أعلى من الوعي الذاتي والانتباه للمشاعر الداخلية، ما يجعلهن أكثر حساسية تجاه كيفية إدراك الآخرين لهن. هذا قد يزيد من ميلهن للاعتقاد بأن مشاعر التوتر أو القلق واضحة للجميع، مما يعزز وهم الشفافية.
أما من الناحية الاجتماعية، فإن التنشئة الاجتماعية تلعب دوراً كبيراً، حيث تُربى الإناث في بعض المجتمعات على الحذر الزائد من الأحكام الاجتماعية والاهتمام بصورة الذات أمام الآخرين، وهو ما قد يؤدي إلى ارتفاع مستويات القلق الاجتماعي. كما أن التوقعات الثقافية المرتبطة بالسلوك “المثالي” أو المقبول اجتماعياً قد تضيف ضغوطاً إضافية عليهن عند التحدث أمام جمهور، مقارنة بالذكور.
كل هذه العوامل تتكامل لتجعل الإناث أكثر عرضة لهاتين الظاهرتين، وهو ما يستدعي تعزيز الوعي والدعم النفسي في البيئة الجامعية لمواجهة هذه التحديات.
كيف تفسرين العلاقة الطردية بين وهم الشفافية وقلق التحدث؟ وهل تعتقدين أن أحدهما يسبب الآخر؟
تُفسَّر العلاقة الطردية بين وهم الشفافية وقلق التحدث أمام الجمهور من خلال التفاعل بين الإدراك الذاتي والانفعالي للفرد. عندما يعتقد الشخص أن مشاعره الداخلية، مثل القلق أو التوتر، واضحة جداً للآخرين (وهم الشفافية)، فإن ذلك يعزز شعوره بالخوف من التقييم السلبي، وهو أحد المحركات الأساسية لقلق التحدث. كلما زاد اعتقاده بأن الجمهور قادر على ملاحظة ارتباكه أو توتره، زاد شعوره بالقلق والعكس صحيح.
لا يمكن الجزم بشكل قاطع بأن أحد المتغيرين يسبب الآخر بشكل مباشر، لكن من الممكن القول إن العلاقة بينهما تغذوية متبادلة؛ أي أن وهم الشفافية يمكن أن يكون عاملاً مساهماً في زيادة قلق التحدث، وبدوره، القلق قد يعزز شعور الفرد بأن مشاعره مكشوفة. هذا التفاعل الدائري يمكن أن يؤدي إلى حلقة مستمرة من القلق والتوتر إذا لم يُكسر من خلال الوعي النفسي أو التدريب على مهارات التحدث والثقة بالنفس.
لذا، فهم هذه العلاقة يُعد خطوة مهمة في تطوير برامج إرشادية تستهدف خفض كليهما من خلال تعديل الإدراك الذاتي وتقديم استراتيجيات لمواجهة القلق.
كانت الفروق غير دالة إحصائيًا حسب المرحلة الدراسية. هل هذا فاجأكِ؟ ولماذا تعتقدين أن المرحلة لم تكن مؤثرة؟
نعم، كانت نتائج عدم وجود فروق دالة إحصائيًا بين المرحلتين الدراسيتين مفاجئة إلى حد ما، خاصة مع توقعاتي المبدئية التي اعتمدت على الفروق في الخبرة والنضج الأكاديمي. ومع ذلك، أعتقد أن عدم تأثير المرحلة الدراسية يمكن تفسيره بعدة عوامل. أولاً، قد يكون وهم الشفافية وقلق التحدث ظواهر نفسية ذات طبيعة عامة لا تعتمد بالضرورة على مستوى الخبرة الأكاديمية فقط، بل تتأثر بعوامل شخصية واجتماعية أعمق مثل السمات الشخصية ومستوى الدعم الاجتماعي والبيئة التعليمية.
ثانيًا، من الممكن أن الطلبة في كلا المرحلتين يواجهون ضغوطاً ومواقف تتطلب التحدث أمام الجمهور بشكل متكرر، مما يقلل الفروق بينهم في هذا الجانب. كما أن تطور المهارات التواصلية قد لا يكون بالضرورة متسقًا مع التقدم الدراسي، حيث أن بعض الطلبة قد يمتلكون مهارات تواصل قوية منذ البداية، في حين يعاني آخرون منها حتى في المراحل المتقدمة.
لذلك، تُشير هذه النتائج إلى أهمية التركيز على عوامل أخرى بجانب المرحلة الدراسية عند دراسة وهم الشفافية وقلق التحدث أمام الجمهور.
ما العلاقة بين وهم الشفافية وتحقيق الذات كما ناقشتِ في الإطار النظري؟
في الإطار النظري لبحثي، ناقشت العلاقة بين وهم الشفافية ومفهوم تحقيق الذات من خلال فهم كيف يؤثر الإدراك الخاطئ لمقدار انكشاف الأفكار والمشاعر على تطوير الفرد لذاته. وهم الشفافية، باعتباره اعتقاداً غير دقيق بأن الآخرين يستطيعون ملاحظة مشاعرنا وأفكارنا الداخلية بسهولة، يمكن أن يعيق عملية تحقيق الذات لأنه يزيد من القلق والضغط النفسي، ويقلل من الثقة بالنفس.
تحقيق الذات يتطلب من الفرد القدرة على فهم ذاته وقبولها، بالإضافة إلى امتلاك شعور بالأمان تجاه التعبير عن النفس بحرية. عندما يسيطر وهم الشفافية على الفرد، فإنه قد يشعر بعدم الراحة أو الخوف من تقييم الآخرين، مما يحد من قدرته على التعبير عن ذاته الحقيقية أو السعي نحو أهدافه الشخصية بحرية. بالتالي، يمكن القول إن وهم الشفافية يشكل عائقاً نفسياً أمام تحقيق الذات، ويُبرز أهمية تعزيز الوعي الذاتي الصحيح كجزء من عملية النمو الشخصي.
برأيكِ، هل تؤدي منصات التواصل الاجتماعي إلى تعزيز وهم الشفافية لدى الشباب؟ ولماذا؟
نعم، أعتقد أن منصات التواصل الاجتماعي قد تسهم في تعزيز وهم الشفافية لدى الشباب. يعود ذلك إلى الطبيعة الفريدة لهذه المنصات التي تتيح للأفراد مشاركة أفكارهم ومشاعرهم بشكل علني ومباشر، مما يزيد من وعيهم بمدى انكشافهم أمام جمهور واسع. في بعض الأحيان، يظن الشباب أن متابعيهم أو أصدقائهم قادرون على قراءة مشاعرهم الحقيقية أو نواياهم بدقة من خلال منشوراتهم وتعليقاتهم، وهو تصور يعزز وهم الشفافية.
علاوة على ذلك، تضغط منصات التواصل الاجتماعي على المستخدمين لتقديم صورة مثالية عن أنفسهم، مما يرفع من مستوى القلق الاجتماعي والخوف من الحكم السلبي، وبالتالي يزيد من الإحساس بأن الآخرين يلاحظون كل تفاصيل مشاعرهم وأفكارهم. كما أن التعليقات الفورية وردود الفعل العامة تزيد من الشعور بالمراقبة المستمرة، مما يعزز الاعتقاد الخاطئ بأن الانفعالات الداخلية واضحة للجميع.
لذلك، من المهم توعية الشباب حول طبيعة هذه الظاهرة وتأثيرها النفسي، وتشجيعهم على تطوير مهارات التعامل الصحي مع التواصل الرقمي لتقليل آثار وهم الشفافية.
ما الفرق بين وهم الشفافية وتأثير تسليط الضوء؟ وكيف يتداخلان أو يتمايزان في السياقات الاجتماعية؟
وهم الشفافية وتأثير تسليط الضوء هما مفهومان نفسيان مرتبطان ولكن لهما فروق جوهرية في طبيعة الإدراك والتأثير في السياقات الاجتماعية.
-وهم الشفافية يشير إلى الاعتقاد الخاطئ لدى الفرد بأن مشاعره وأفكاره الداخلية – مثل القلق أو التوتر واضحة وظاهرة للآخرين بشكل أكبر مما هي عليه في الواقع. هذا الوهم يعكس مدى مبالغة الفرد في تصور مدى كشف الآخرين لحالته النفسية الداخلية.
-أما تأثير تسليط الضوء فهو ظاهرة يبالغ فيها الفرد في تقدير مدى اهتمام الآخرين به وملاحظتهم لتصرفاته أو مظهره الخارجي. بمعنى آخر، يعتقد الشخص أن الآخرين يركزون انتباههم عليه أكثر مما يفعلون فعلاً.
التداخل والتمييز:
يتداخل المفهومان في أنهما يرتبطان بزيادة الوعي الذاتي والإحساس بالمراقبة الاجتماعية، وغالباً ما يترافقان مع مشاعر القلق والخوف من الحكم الاجتماعي. إلا أن التمايز يكمن في أن وهم الشفافية يركز على مدى وضوح الحالة النفسية الداخلية، بينما تأثير تسليط الضوء يتعلق بدرجة الانتباه والملاحظة التي يعتقد الفرد أن الآخرين يوجهونها إليه.
في السياقات الاجتماعية، يمكن أن يؤدي الاثنان معاً إلى زيادة الحرج والقلق، حيث يعتقد الفرد أن مشاعره مكشوفة (وهم الشفافية) وأن الجميع يراقبه بدقة (تأثير تسليط الضوء)، مما يضع ضغطاً نفسياً إضافياً عليه أثناء التفاعل الاجتماعي.
كيف يمكن للأساتذة في الجامعة مساعدة الطلبة الذين يعانون من قلق التحدث أو وهم الشفافية؟
يمكن للأساتذة في الجامعة أن يلعبوا دوراً محورياً في دعم الطلبة الذين يعانون من قلق التحدث أمام الجمهور أو وهم الشفافية من خلال عدة استراتيجيات. أولاً، يمكنهم تهيئة بيئة صفية آمنة ومحفزة تشجع على التعبير الحر دون خوف من السخرية أو النقد السلبي، مما يقلل من الشعور بالضغط والتوتر.
ثانياً، يمكن للأساتذة توفير فرص تدريجية للتحدث أمام الجمهور، تبدأ بمجموعات صغيرة أو أنشطة غير رسمية، ثم تزداد تدريجياً في الحجم والتعقيد، مما يساعد الطلبة على بناء ثقتهم بأنفسهم بشكل تدريجي.
ثالثاً، من المفيد أن يقدم الأساتذة توجيهات عملية وتقنيات إدارة القلق، مثل تمارين التنفس، وتقنيات التركيز الذهني، بالإضافة إلى تعزيز الوعي بظاهرة وهم الشفافية لتصحيح التصورات الخاطئة لدى الطلبة.
أخيراً، يمكن تشجيع الطلبة على التدريب المستمر والممارسة من خلال الأنشطة الصفية والمشاريع الجماعية، مع تقديم تغذية راجعة بناءة تعزز من تطور مهاراتهم التواصلية وتقلل من مخاوفهم. بهذه الطرق، يسهم الأساتذة في بناء بيئة تعليمية داعمة تعزز من الصحة النفسية والنجاح الأكاديمي للطلبة.
تحدثتِ عن دور الإرشاد النفسي والعلاج المعرفي السلوكي؛ ما المقترحات العملية التي توصي بها لتطبيق ذلك داخل الجامعات؟
لتطبيق دور الإرشاد النفسي والعلاج المعرفي السلوكي (CBT) داخل الجامعات، أوصي بعدة مقترحات عملية تهدف إلى دعم الطلبة في مواجهة قلق التحدث أمام الجمهور ووهم الشفافية:
1ـــ إنشاء مراكز إرشاد نفسي متخصصة داخل الحرم الجامعي تقدم خدمات استشارية دورية تشمل جلسات علاج معرفي سلوكي موجهة لمساعدة الطلبة على تعديل الأفكار السلبية وتحسين مهارات التواصل.
2ـــ تدريب المستشارين الأكاديميين والأخصائيين النفسيين على تقنيات العلاج المعرفي السلوكي بحيث يكونوا قادرين على تقديم تدخلات فعّالة مستندة إلى الأدلة العلمية.
3ـــ تنظيم ورش عمل ودورات تدريبية منتظمة تستهدف الطلبة لتعريفهم بآليات CBT وكيفية تطبيق استراتيجياته الذاتية مثل إعادة الهيكلة المعرفية، التحكم في القلق، والتعرض التدريجي للمواقف الاجتماعية المقلقة.
4ـــ دمج برامج الدعم النفسي ضمن المناهج التعليمية، بحيث يُتاح للطلبة تعلم مهارات التعامل مع التوتر والقلق ضمن بيئة أكاديمية منظمة.
5ـــ تشجيع الطلبة على الانخراط في مجموعات دعم جماعية تحت إشراف مختصين، حيث يمكن تبادل الخبرات والممارسة العملية لاستراتيجيات مواجهة القلق بشكل تفاعلي وداعم.
هذه المقترحات تساعد في توفير بيئة جامعية صحية نفسياً تعزز من قدرة الطلبة على مواجهة تحديات القلق وتطوير مهاراتهم التواصلية بثقة وفعالية.
هل تعتقدين أن التدريب على الخطابة أو التحدث العلني قد يقلل من تأثير وهم الشفافية؟ ولماذا؟
نعم، أعتقد أن التدريب على الخطابة أو التحدث العلني يمكن أن يقلل من تأثير وهم الشفافية بشكل كبير. يعود ذلك إلى أن التدريب المستمر يساعد الفرد على زيادة ثقته بنفسه وتحسين مهاراته التواصلية، مما يقلل من الشعور بالقلق والارتباك أثناء التحدث أمام الجمهور.
علاوة على ذلك، يساهم التدريب في تعديل التصورات الخاطئة التي يحملها الفرد حول مدى انكشاف مشاعره الداخلية أمام الآخرين، حيث يصبح أكثر وعياً بأن الآخرين في العادة لا يلاحظون التوتر أو القلق بشكل واضح كما يتخيل.
كما يوفر التدريب فرصاً للتعرض التدريجي للمواقف الاجتماعية المقلقة، مما يعمل على تحطيم الحلقة المفرغة بين وهم الشفافية وقلق التحدث، ويعزز من السيطرة الذاتية على الانفعالات، وبالتالي يقلل من تأثير الوهم على تجربة التحدث العلني.
لذلك، يمكن اعتبار التدريب على الخطابة أداة فعالة ومهمة في تعزيز الصحة النفسية والاجتماعية للأفراد، خاصة في بيئات تتطلب تواصلاً عاماً مستمراً مثل الجامعات.
ما المقترحات البحثية التي تنوين العمل عليها لاحقًا؟ وهل تفكرين بالتوسع في دراسة جوانب أخرى مثل تقدير الذات أو الوعي الذاتي؟
بالنسبة للمقترحات البحثية المستقبلية، أنوي التوسع في دراسة العلاقة بين وهم الشفافية ومجموعة أوسع من المتغيرات النفسية والاجتماعية التي تؤثر على تجربة الفرد، مثل تقدير الذات والوعي الذاتي، وذلك بهدف فهم أعمق لكيفية تأثير هذه العوامل على قلق التحدث أمام الجمهور.
في المستقبل، يمكن توسيع نطاق الدراسة لتشمل فئات عمرية ومجتمعية مختلفة، مما يساعد في تعميم النتائج وتطوير استراتيجيات دعم شاملة تناسب مختلف البيئات.
هذه الخطوات البحثية تسعى إلى إثراء المعرفة العلمية وتقديم حلول عملية تسهم في تحسين جودة الحياة النفسية والاجتماعية للأفراد.
ما الرسالة التي ترغبين في إيصالها من خلال هذا البحث لطلبة الجامعات؟
الرسالة الأساسية التي أرغب في إيصالها من خلال هذا البحث لطلبة الجامعات هي أن ما يشعرون به من قلق أو توتر أثناء التحدث أمام الآخرين ليس كما يعتقدون تمامًا، وأن مشاعرهم وأفكارهم ليست مكشوفة بوضوح للآخرين كما يتصورون. فهم هذه الحقيقة يمكن أن يساعدهم في تقليل العبء النفسي المرتبط بوهم الشفافية ويعزز من ثقتهم بأنفسهم.
أود أن أشجع الطلبة على تطوير مهارات التواصل ومواجهة مخاوفهم تدريجياً، لأن ذلك جزء طبيعي ومهم من النمو الشخصي والأكاديمي. كما أؤكد على أهمية طلب الدعم النفسي عند الحاجة وعدم الخجل من ذلك، لأن الصحة النفسية هي ركيزة أساسية للنجاح والتفوق.
باختصار، أريدهم أن يعرفوا أن فهم الذات والتعامل الصحيح مع الأفكار والمشاعر يمكن أن يفتح لهم آفاقاً جديدة من الثقة والإنجاز في حياتهم الأكاديمية والاجتماعية.
وأخيرًا، ما أهم درس علمي أو شخصي تعلمتِه من خلال إعداد هذا البحث؟
أهم درس تعلمته من خلال إعداد هذا البحث هو مدى تعقيد وتداخل العوامل النفسية التي تؤثر على تجربتنا الذاتية في المواقف الاجتماعية، مثل وهم الشفافية وقلق التحدث أمام الجمهور. علمتني الدراسة أن الإدراك الذاتي غالبًا ما يكون غير دقيق، وأن فهم هذه الأخطاء الإدراكية يمكن أن يكون مفتاحًا لتحسين الصحة النفسية وتعزيز التواصل الفعّال.
على المستوى الشخصي، تعلمت أهمية الوعي الذاتي والتسامح مع النفس، وكيف أن مواجهة المخاوف والقلق بشكل مدروس ومنهجي يمكن أن يحول التجارب السلبية إلى فرص للنمو والتطور. هذا البحث عزز لدي قناعة أن التغيير يبدأ من فهمنا العميق لأنفسنا وتعديل تصوراتنا، وهو ما يمكن تطبيقه في الحياة الأكاديمية والشخصية على حد سواء.
في ختام هذا الحوار، نجد أنفسنا أمام دراسة لم تكتفِ بالكشف عن أبعاد ظاهرة نفسية خفية كـ"وهم الشفافية"، بل مضت إلى أبعد من ذلك، لتسلط الضوء على تأثيراتها العميقة في بنية القلق الاجتماعي، لا سيما في مواقف التحدث أمام الآخرين. لقد أظهرت الباحثة هاجر عقيل كاظم الشمري أن الظواهر النفسية ليست مفاهيم مجردة محصورة في قاعات المحاضرات أو الكتب الأكاديمية، بل هي امتدادات حيّة تتغلغل في تفاصيل حياتنا اليومية، وتؤثر في سلوكنا وتواصلنا وصورتنا عن أنفسنا.
من خلال هذا الحوار، لمسنا وعيًا علميًا حقيقيًا لدى الباحثة، ورغبة صادقة في تسخير علم النفس لخدمة الإنسان، عبر فهم أعمق لمواطن الخلل التي تعيق تواصله وتفاعله السليم مع محيطه. لقد كان بحثها بمثابة مرآة عكست مشكلات نفسية يعيشها الكثير من الطلبة، خاصة في ظل بيئة تعليمية ما زالت في كثير من الأحيان تضع الأداء فوق الراحة النفسية، والتلقين فوق التعبير.
إن طرح مثل هذه المواضيع في سياق أكاديمي وبحثي هو خطوة بالغة الأهمية نحو تطبيع الحديث عن الصحة النفسية، وتشجيع الأفراد، وخصوصًا الشباب، على تجاوز مخاوفهم وأوهامهم، وفهم أن كثيرًا من القلق الذي يشعرون به ليس إلا صدى لصراعات داخلية قابلة للتفكيك والمعالجة.
نأمل أن يكون هذا الحوار قد ساهم في إيصال صوت بحثي مميز، وأن يكون بمثابة دعوة مفتوحة لكل باحث وطالب علم لأن يغوص في أعماق النفس البشرية، ليس فقط لإدراك تعقيداتها، بل لمحاولة التخفيف من أعبائها. فالعلم، في نهاية المطاف، ليس غاية بحد ذاته، بل وسيلة نبيلة لفهم الإنسان... ومساعدته على أن يكون أكثر توازنًا وسلامًا مع ذاته.
كل التوفيق لكِ في مسيرتكِ العلمية والعملية، ونتطلّع إلى رؤية المزيد من أعمالكِ البحثية التي تثري الساحة النفسية العربية والعراقية.
اضف تعليق