الهوية الثقافية ليست سجنًا، بل بوصلة… ليست قيدًا، بل جذرًا يثبت الإنسان في عالم متقلب. في زمن العولمة، يصبح التحدي الحقيقي هو: كيف ننفتح على العالم دون أن نضيع في زحامه؟ وكيف نطور ذواتنا دون أن نفقد أرواحنا؟ إن الحفاظ على الهوية مسؤولية تتقاسمها الأسرة، المدرسة، الإعلام، والمؤسسات، وهي تبدأ من الوعي وتنمو بالإرادة...
بقلم: زهراء الفتلاوي

في عصر العولمة المتسارع، يتسابق العالم نحو الانفتاح والتواصل، تتلاقى الثقافات وتذوب الحواجز الجغرافية واللغوية، وتتداخل المجتمعات في بوتقة واحدة تُسمى "القرية الكونية". لكن، في خضم هذا الانفتاح الهائل، يعلو سؤال جوهري: هل نستطيع أن نحافظ على جذورنا وهويتنا الثقافية في ظل هذا الانصهار؟ أم أننا نذوب شيئًا فشيئًا في ثقافة عالمية تبتلع الخصوصيات وتطمس الملامح؟ هذا السؤال لم يعد ترفًا فكريًا، بل هو معركة وجود يومية، يعيشها الإنسان بين ثنائية الأصالة والحداثة، وبين الرغبة في التطور والخوف من التلاشي.

الهوية الثقافية نبض الشعوب وجذورها :

الهوية الثقافية ليست مجرد ماضٍ محفوظ في كتب التاريخ، بل هي كائن حي نابض بالتقاليد، القيم، اللغة، الدين، والفنون… هي ذاكرة الشعوب ومرآة وجدانهم.

وقد أثبتت الدراسات الطبية والنفسية أن الارتباط بالهوية الثقافية يعزز الصحة النفسية والجسدية؛ حيث يمنح الإنسان شعورًا بالانتماء، ويقيه من الاغتراب والاضطرابات النفسية، خاصةً في المجتمعات التي تمر بتحولات سريعة أو تعاني من النزوح.

فالهوية هنا أشبه بجذور شجرة، مهما تعرّضت للرياح تبقى ثابتة إن كانت متصلة بتربتها.

العولمة سيف ذو حدين :

العولمة تسهّل التبادل المعرفي والثقافي، وتفتح آفاقًا للتطور، لكنها أيضًا تحمل في طيّاتها خطرًا ناعمًا… خطر الذوبان في ثقافة مهيمنة عالميًا، غالبًا ما تُفرض من خلال الإعلام، والاقتصاد، والمنصات الرقمية.

وقد حذّر المفكر صامويل هنتنغتون في كتابه "صراع الحضارات" من هذا الانصهار، مشيرًا إلى أن المستقبل قد يشهد صدامات حضارية، ما لم تحترم الهويات وتُصن خصوصيات الثقافات.

وهذا يتقاطع مع ما أكده القرآن الكريم، حيث قال الله تعالى:

> "وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ ۚ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا" (الإسراء: 81)

تأكيدٌ على أن الثوابت لا تُهزم مهما طغت موجات التغيير.

الهوية في التراث الإسلامي توازن لا انغلاق :

الإسلام لم يكن يومًا دين انغلاق، بل كان دائمًا منفتحًا على الثقافات بشرط ألا يُفرّط في الأصول. فقد أقرّ العادات الحسنة، وشجّع على العلم والتفاعل مع الحضارات.

ويقول الإمام الغزالي:

 ( الإنسان يعيش في وطن القلب، وإذا غاب الوطن الخارجي، يبقى الوطن الداخلي ذا مكانة لا تُنكر.)

وهذا المعنى يعكس أهمية الهوية كملاذ داخلي يمنح الإنسان استقراره حتى في الغربة أو الشتات.

الهوية والهجرة: تمزّق أم امتداد؟

في زمن الحروب والهجرات، تواجه الهوية الثقافية تحديًا أكثر قسوة.

فالجيل الأول من المهاجرين غالبًا ما يتمسك بلغته ودينه وتقاليده، لكن الجيل الثاني والثالث يعيشون تمزقًا بين ثقافتين.

وقد رصدت دراسات عديدة في أوروبا وأمريكا حالات قلق واكتئاب لدى شباب مهاجرين يعانون من "فقدان الجذور".

الحل هنا ليس في العزلة، بل في بناء جسور بين الأصل والمحيط الجديد، حيث تبقى الهوية مرنة دون أن تفقد جوهرها.

الضياع الثقافي والصحة النفسية :

تشير تقارير منظمة الصحة العالمية إلى أن المجتمعات التي فقدت هويتها بفعل العولمة، أو الاستعمار الثقافي، تعاني من ارتفاع في معدلات الأمراض النفسية، الانتحار، وإدمان المخدرات.

فحين يفقد الإنسان انتماءه الثقافي، يشعر بأنه بلا مرآة، بلا تعريف، وهذا ما يُطلق عليه علم النفس مصطلح "الاغتراب الوجودي".

الشباب: بين التيه والتجذّر :

الشباب اليوم هم الأكثر عرضة لهذا التشتت، فهم يعيشون في فضاء رقمي عالمي، حيث يُقدَّم لهم النموذج الغربي على أنه النموذج الأمثل.

لكن هذا لا يعني الاستسلام، بل يدفعنا لتقديم حلول عملية مثل:

_إدماج الهوية الثقافية في المناهج التعليمية.

_إقامة مهرجانات تراثية معاصرة.

_تشجيع الفنون واللغات المحلية بأساليب جذابة.

_الاستثمار في الإعلام الهادف الذي يُظهر جمال هويتنا بلغة يفهمها الجيل.

دور المؤسسات: جذور تُروى باستمرار :

المؤسسات الثقافية والدينية يجب ألا تبقى حبيسة الماضي، بل عليها أن تتحول إلى محاضن تُنبت الوعي وتروي الجذور.

ففي العراق مثلاً، أطلقت بعض الجامعات حملات توعية للحفاظ على اللهجات المحلية والفولكلور، فيما تبنت مراكز أخرى ورش تعليمية حول "الهوية في ظل العالم الرقمي".

كما أن المساجد، والحسينيات، والمراكز الثقافية بإمكانها أن تكون منصات توازن بين الدين والانتماء، وتُعيد تقديم القيم بثوب عصري دون تفريط.

الهوية الثقافية ليست سجنًا، بل بوصلة… ليست قيدًا، بل جذرًا يثبت الإنسان في عالم متقلب. في زمن العولمة، يصبح التحدي الحقيقي هو: كيف ننفتح على العالم دون أن نضيع في زحامه؟ وكيف نطور ذواتنا دون أن نفقد أرواحنا؟ إن الحفاظ على الهوية مسؤولية تتقاسمها الأسرة، المدرسة، الإعلام، والمؤسسات، وهي تبدأ من الوعي وتنمو بالإرادة.

فمن لا يملك هوية… لا يملك ظلًا، ومن لا يملك ظلًا… لا يُرى.

اضف تعليق