تحريك الملف داخل الامم المتحدة والقضاء الدولي امام محكمة العدل الدولية. على الحكومة أن تتحرك وفق هذه الخطوط بشكل متوازٍ غير متقاطع وبذات الوقت وبشكل سريع، فالعراق دخل مرحلة الجفاف وتتحمل الجهات التنفيذية ذات الصلة مسؤولية التراجع بهذا الملف، ومذكرة الاذعان الأخيرة التي وقعها العراق والتي ساومت تركيا العراق باحتكار كل مشاريع المياه...
حضارة ما بين النهرين اقدم حضارة إنسانية قبل سبعة الاف سنه وهي تسمى بالنهرين وتكنى بهما حتى اصبحت (النهرين) قرينة على اسم العراق قبل ان تُعرف تركيا الحالية باسم معين حين كانت منطقة لقبائل اسيا الوسطى.
ونهري دجلة والفرات هما عصب الحياة ويشكلان المصدر المائي الأساسي للعراق بشكل يغطي احتياجه الفعلي والحقيقي بغض النظر عن المصادر الأخرى، سواء كانت داخلية أو من سوريا أو من إيران، ولأهمية الموضوع، لا بد من التأصيل فيه وإن كان سينعكس على طول المقال.
دجلة والفرات ينبعان من تركيا حيث إن الفرات ينبع من شرق الأناضول من التقاء رافدين، هما مراد صو وقره صو، ليقطع جبال طوروس باتجاه سوريا، ويبلغ طوله من المنبع إلى المصب (2940) كم يجري (1176) كم في تركيا و( 610) في سوريا و(1160) في العراق.
وينبع نهر دجلة من بحيرة هزار في جبال طوروس شرق تركيا ويبعد حوالي ( 80) كم عن منابع الفرات، ويبلغ طوله ( 1718) كم يجري في العراق بطول ( 1400) اي بمعدل 82 بالمئة من طول النهر الكلي .
اما التكييف القانوني للنهرين فهو استنادا للقانون الدولي، يصنفان على أنهما نهران دوليان، حيث إن النهر الدولي هو النهر الذي يقطع حدود أكثر من دولة أو هو الذي يمثل الخط الحدودي بين الدولتين، والعراق يملك حقا قانونيا دوليا أصيلا بالنهرين استنادا للأسانيد القانونية والمثبتة في أسس ومصادر الالتزام كما صنفتها المادة 38 من النظام الاساس لمحكمة العدل الدولية الملحق بميثاق الامم المتحدة، حيث نصت على أن مصادر التشريع هي الاتفاقيات والعرف ومبادئ الامم المتمدنة واحكام القضاء وآراء فقهاء القانون الدولي ومبادئ العدالة والانصاف، أي أن العراق يمتلك حقا تاريخيا مكتسبا في نهري دجلة والفرات، وهذا الحق مكفول باعتباره من الأعراف والمبادئ الأساسية لقانون البحار والأنهار، التي تعد ملزمة وواجبة النفاذ والاحترام.
اما الاتفاقيات، فقد تناولت اتفاقية باريس عام 1920 في مادتها الثالثة موضوع المياه لنهري دجلة والفرات بين بريطانيا المنتدبة للعراق وفرنسا المنتدبة لسوريا مع تركيا، وفصلت في وضع النهرين باعتبارهما دوليين وتشكيل لجنة مشتركة تراقب وتراعي الانتفاع والاستخدام للنهرين بالشكل الذي لا يضر مصلحة دول المجرى، ويحقق مصلحتها بشكل عادل، واخبار دول المجرى عن أي مشروع لاستثمار النهر وأخذ موافقتها عليه وبشكل لا يرتب أي ضرر على دولة المجرى.
اما اتفاقية لوزان عام 1923 فقد أفردت مادة رقم 109 تتعلق بالمياه وضرورة احترام الحقوق المكتسبة والحصص المائية العادلة لدول المجرى، مع وجوب إبرام معاهدة ثنائية عند عدم وجود أحكام مخالفة.
وفي عام 1946 عقد العراق مع تركيا معاهدة صداقة وحسن الجوار، ونصت المادة السادسة منها على إلحاق ست بروتوكولات اليها، كان موضوع الاول منها يتعلق بتنظيم حريات النهرين وحق العراق في تنفيذ أية إنشاءات أو أعمال تؤمن الاستعمال وانسيابية المياه بصورة طبيعية. اما البروتوكول الثاني والثالث والرابع فيتعلق بالأمور الفنية.
بينما البروتوكول الخامس فهو الاهم فيها، حيث ألزم الجانب التركي باطلاع العراق على المشاريع التركية على النهرين، وضرورة تحقيق مصالح العراق بهذه المشاريع كما التركية.
وفي عام 1980 نظم العراق لجانا مشتركة للتعاون الاقتصادي والفني والذي افرد الفصل الخامس للمياه وشكل على اثرها لجنة فنية تنعقد خلال شهرين لدراسة الموضوعات المتعلقة بالمياه مدة سنتين قابلة للتمديد سنة ثالثة، وفي عام 1990وقع العراق وسوريا على مذكرة تحدد حصة العراق من الاطلاقات المائية لنهر الفرات بنسبة 58 بالمئة.
واذا كانت تركيا غير طرف في اتفاقية الدول المتشاطئة عام 1997 فهذا لا يعني عدم التزامها ببعض المبادئ التي وردت فيها وهي تكرار لاتفاقيات 57، 61،66 وهذه المبادئ تشكل قواعد عرفية ملزمة.
كما وتجدر الإشارة إلى ان العراق هو الدولة الاولى تاريخيا في استثماره واستخدامه لنهري دجلة والفرات فهو صاحب الحق التاريخيّ المكتسب، اما سوريا فبدأت بالتفكير باستغلال الفرات بالنصف الثاني من القرن العشرين (بعثة البنك الدولي 1945) والبعثة السوفيتية ( 1958) وبناء سد الثورة 1968، اما تركيا فهي آخر المستفيدين من النهرين، حيث بدأت بالتفكير باستغلال النهرين واستصلاح الأراضي المحيطة بهما بعد عام 1950، من خلال إنشاء السدود وكان أولها سد كيبان بسعة 9.4 مليار م3 وسد قره قايا وسد اتاتورك عام 89، وعام 1994 اكتمل مشروع أسطول نفق إروائي (نفق أروقة)، وعام 96-95 سدي بيره جك وقرقاميش ومشروع (جنوب شرق الأناضول) (الكاب) الذي يضم 22 سدا و19محطة توليد كهرباء وأكبرها سد اليسو، ليصل عدد السدود لهذه اللحظة على نهري دجلة والفرات 22 سدا، 14 منها على الفرات وأكبرها اتاتورك و8 منها على دجلة وأكبرها اليسو بسعة 100 مليار م3 وتركيا بصدد إنشاء 17 سدا جديدا، علما أن مجموع سدود تركيا بعموم البلد هي 579 سدا وهناك دراسات تقول اكثر من 934 سدا.
ساهمت امريكا وفرنسا وكندا وإسرائيل ومؤسسات مالية أوروبية في تمويلها حيث تشير الدراسات إلى أن 67 شركة اسرائيلية مساهمة في مشروع السدود ومشروع الكاب منذ عام 1995.
واعربت إسرائيل عن رغبتها بشراء ضفاف نهر مناوغات لتأمين احتياج بعض المستوطنات من المياه وأن الخبير الإسرائيلي شارون لوزورف هو مصمم مشروع الكاب والمهندس يوشع كالي هو المنفذ، وقد ساعدت مؤسسة مشاو الاسرائيلية للتربية والتعليم بنقل التكنولوجيا الزراعية.
بناء على ما تقدم أعلاه استصلحت تركيا 8.5 مليون هكتار من الأراضي الزراعية خصصت 3.1 مليون هكتار لزراعة القطن، وبما أنه لا يمكن فصل سياسة المياه عن مشروع الشرق الأوسط الجديد، الذي تريد تركيا أن تاخذ دورا فيه بعد أن أخذت ضمانات أمريكية منذ التسعينيات ومؤتمر مدريد. حيث استصلحت تركيا أراضي في تسع مناطق هي بالأعم الاغلب للأكراد، حيث يقطنها اكثر من ثلاثة ملايين ونصف مليون كردي لتجعلها نقطة جذب سكاني لاسكان ستة ملايين تركي فيها، كنوع من التغيير الديموغرافي وهذه المناطق هي (ديار بكر، غازي عنتاب، سيبرا، شانلي أورفا، ارييامان، ماردين، كالس، شاناك، بطمان).
فضلا عن طموح تركيا بأن تكون المنتج الأول والرئيس للغذاء والمورد له في مناطق الشرق الأوسط والدول الثماني المنشقة من الاتحاد السوفيتي، وبذلك تكون القوة الإقليمية المهيمنة على المنطقة وهذا لا ينفك أن يكون مترابطا مع أزمة المياه بين مصر والسودان مع إثيوبيا وبناءها للسد الذي كان بتعاون إسرائيلي، في حين خسر العراق معظم أراضيه الزراعية، وما يستتبعه من منتوجات زراعية معينة.
مع هذه السياسات وعلى مدى سنوات طويلة كانت، هذه المرحلة الأشد، حيث بلغت الاطلاقات المائية 114 - 118 م3 بالثانية من اصل ما لا يقل عن 600 م3 بالثانية كحد ادنى من حق العراق واحتياجه، مما دفع الحكومة إلى سد النقص في الموارد المائية بإطلاق دفعات مائية بمقدار 350 م3 بالثانية من سد الموصل ذي السعة 11 مليار متر مكعب، والذي وصل مخزونه الحالي إلى أقل من مليارين ونصف متر مكعب، وهو ما يؤشر نفاده بمدة اقصاها شهر بأحسن الأحوال.
كما أشارت جمعية المياه الاوروبية أن العراق يخسر 33 مليار م3 سنويا من نهر دجلة، وهو سيفقد نهري دجلة والفرات تماما عام 2040.
مع هذه السياسة التي انتهجتها تركيا وهي تدير ملف المياه، حيث إنها تدعي أحيانا أن النهرين هما ليسا دوليين، وهذا غير صحيح إطلاقا وإحيانا تطالب باعتبار حوضي النهرين، هو حوض واحد وما هما إلا رافدان لنهر واحد اسمه شط العرب، وهذا يعني أن على العراق أن يأخذ حصة واحدة من المياه، ويسد النقص بتحويل المياه من دجلة للفرات أو بالعكس وهذه حجة مرفوضة وخيالية، حيث إن منابع الفرات تبعد عن منابع دجلة حوالي 80 كم.
لتطرح حجة أخرى لتتنصل من التزاماتها الدولية وهي (الاستخدام الأمثل)، التي نظر لها المنظرون من التسعينيات ومنهم (اوزن بيلين) الخبير المائي، أو ما يطلق عليها (خطة المراحل الثلاث)، والتي تعني اعتماد مقياس التربة وإنتاجيتها في اعطاء الماء وعدمه، بمعنى أن تشكل لجنة من تركيا والعراق تدرس فيها نوع التربة ومدى إنتاجيتها، فإذا كانت الإنتاجية اقل من المطلوب فلا تستحق هذه التربة السقي وتستبعد من الحصة المائية بمعنى اخراج ملايين الدونمات الزراعية وخسارة أنواع عديدة من المنتوجات الزراعية .
وهذا طرح غريب جدا فهو يعتبر تدخلا سافرا بالشؤون الداخلية، هذا من جهة كما انه يتنافى مع سياسة الاستصلاح، التي تتبعها كل دول العام بما فيها تركيا والتي يتم استخدام جميع الوسائل الحديثة لزيادة خصوبة الاراضي من جهة أخرى، وأن تركيا لا تملك حق منع حق العراق القانوني الثابت في مياه نهري دجلة والفرات.
والأغرب من طرح هذه النظرية هو انطلاء هذه الخدعة على العراق، حيث نرى الجانب العراقي اصبح تركياً اكثر من الأتراك انفسهم، حين نرى مفاوضيه من مسؤولين ومستشارين وفنيين يتحدثون بأساليب الترشيد الداخلي وطرق الرش وغسل السيارات وتربية الأسماك، متناسين صلب الموضوع الذي ينبغي التمسك والتحدث به دون غيره، وهو حق العراق القانوني بمياه دجلة والفرات بشكل عادل ومعقول، الذي لا يمكن المساس به، فحق العراق وحصته أولا والحديث عن الترشيد شأن داخلي وهو يأتي ثانيا.
والسؤال الذي يرد هنا، هو هل أن تركيا حرة في عدم الجلوس على طاولة المفاوضات ولا تترتب عليها أي مسؤولية؟ الجواب هو قطعا بالنفي التام، لأنها قانونا مجبرة على الجلوس والتفاوض، استنادا للقانون الدولي، وبالذات الأعراف والمبادئ القانونية الواجبة الاحترام، التي تنص على الحصة العادلة والمعقولة لدول المجرى والتي اكدها قرار معهد القانون الدولي في سالزبورغ عام 61 وقرار الجمعية العامة للقانون الدولي في نيويورك 58 وهامبورغ 60 وهلسنكي 66.
والسؤال هنا كيف للعراق ان يجبر تركيا على التفاوض؟، وذلك من خلال ثلاث طرق:
الاولى هي الملف الاقتصادي، حيث إن التبادل التجاري بين العراق وتركيا يبلغ اكثر من 17 مليار دولار سنويا، بين
3 - 6 الاف شاحنة يوميا واستخدام ورقة الاقتصاد فعالة لكنها تحتاج لقرار موحد وقوي.
الثانية هي الضغط على الولايات المتحدة الأمريكية الملتزمة مع العراق باتفاقية الاطار الاستراتيجي، التي تتضمن الدفاع عن مصالح العراق بكل القطاعات بدعم موقف العراق ومطالبة تركيا باحترام حق العراق مع الحراك، لتحصيل زخم ودعم راي دبلوماسي مع دول الاتحاد الأوروبي ودول بريكس.
الثالثة، تحريك الملف داخل الامم المتحدة والقضاء الدولي امام محكمة العدل الدولية. على الحكومة أن تتحرك وفق هذه الخطوط بشكل متوازٍ غير متقاطع وبذات الوقت وبشكل سريع، فالعراق دخل مرحلة الجفاف وتتحمل الجهات التنفيذية ذات الصلة مسؤولية التراجع بهذا الملف، ومذكرة الاذعان الأخيرة التي وقعها العراق والتي ساومت تركيا العراق باحتكار كل مشاريع المياه، كانت مخجلة ومعيبة حين تصنّفون دجلة والفرات بانهما نهران (عابران للحدود) فأنتم تنازلتم عنهما لتركيا بوصفهما غير دوليين. عندما يعطش العراق ذلك يعني ان تركيا قتلت عمدا مع سبق الإصرار حضارة ما بين النهرين.
اضف تعليق