من مساحة المعركة المحدودة في البقعة الصغيرة من صحراء كربلاء الى رحاب الزمن والاجيال والتاريخ، تجاوزت السيدة زينب مشاعرها الأنثوية المحدودة، لتتحول الى جبلٍ من الصبر أمام الاعداء، فهي لم تذرف الدمع قط لما أصابها من آلام المواجهة، سوى تلك الدموع السُخنة على سيد الشهداء المسجّى على الارض...

"فَوَ الَّذِي شَرَّفَنَا بِالْوَحْيِ وَالْكِتَابِ وَالنُّبُوَّةِ وَالِانْتِجَابِ لَا تُدْرِكُ أَمَدَنَا وَلَا تَبْلُغُ غَايَتَنَا وَلَا تَمْحُو ذِكْرَنَا".

من خطبة للسيدة زينب في مجلس يزيد بالشام

من الصعب جداً تصور الطريقة التي تعامل بها جُند عمر بن سعد مع نساء الامام الحسين، عليه السلام، بعد انتهاء المعركة وحرق الخيام وتسيير قافلة السبي باتجاه الكوفة.

مما كان يعتزّ به العرب آنذاك، تقليد ورثوه من الجاهلية يقضي بسبي نساء المعسكر المغلوب، وتحويلهم عبيد، او يبادلوهم بفدية من احد الاقرباء، وفي عهد الاسلام الذي وفّر للعرب العزّ والشموخ في ظل دولة حضارية، علّم رسول الله المسلمين به بأن لا سبي للنساء حتى للمشركات، مثل سفانة بنت حاتم الطائي التي أطلق النبي سراحها كرامة لأبيها، ثم زاد في إكرامها بإطلاق سراح جميع ابناء قومها من طي، بيد أن أدعياء الإسلام من دعاة "الخلافة" لرسول الله، فعلوا بخلاف عمله مع بناته هو، صلى الله عليه وآله! ولذا فان التاريخ يسكت إزاء أعمال الضرب والزجر والترويع لبنات الرسالة، وفي طليعتهنّ؛ العقيلة زينب ابنة أمير المؤمنين، عليهما السلام.

أمام وضع مؤلم وقاسٍ غير قابل للوصف، بماذا كانت العقيلة تفكر في تلك اللحظات العصيبة؟

هل كانت تفكر كامرأة مجروحة في كرامتها، باحثة عن شخصيتها وذاتها بعد استشهاد الرجال؟ او ربما تفكر بأن تأخذ دور الرجل بعد استشهاد أخيها الامام الحسين، عليه السلام؟! 

هل بكت زينب؟!

أم انها كانت تفكر بما آل اليه أمر الأمة، من شيوع البغي والطغيان والانحراف والتضليل والظلم، وهي رذائل تجسدت كلها يوم عاشوراء.

الرؤية الشمولية

من مساحة المعركة المحدودة في البقعة الصغيرة من صحراء كربلاء الى رحاب الزمن والاجيال والتاريخ، تجاوزت السيدة زينب مشاعرها الأنثوية المحدودة، لتتحول الى جبلٍ من الصبر أمام الاعداء، فهي لم تذرف الدمع قط لما أصابها من آلام المواجهة، سوى تلك الدموع السُخنة على سيد الشهداء المسجّى على الارض، ذبيحاً سليباً عطشاناً، قد رضّت صدره الخيول، وهو تقليد جاهلي آخر يعتزّ به اتباع بني أمية.

وبذلك تكون قد التزمت بوصية أخيها الامام الحسين، بأن "لا تشقى على جيبا، ولا تخمشي علي وجها، ولا تدعى علي بالويل والثبور إذا انا هلكت"، يروي الامام السجاد، عليه السلام، وهي وصية قائد الى من ينوب عنه في المرحلة القادمة من المواجهة، فهي لم تتحلّ برباطة الجأش وحسب، بل هاجمت عمر بن سعد بإدانة مدوية أمام العسكر بأن "أي عمر أيقتل أبو عبدالله وأنت تنظر اليه"، فجعلته يهوي من كبريائه الخاوي وانتصاره الزائف وسط الاشلاء والدماء، ويطأطئ رأسه الى الأرض.

وفي خطوة قيادية اخرى اقتربت العقيلة من جثمان الامام الحسين وضعت يدها تحته في إشارة الى نيتها لحمله نحو السماء وهي تقول: "اللهم تقبّل هذا القربان من آل محمد". 

كم تحتاج المرأة لطاقة داخلية تمكنها من اتخاذ موقف كهذا مع أخ او زوج او أب او ابن في معركة غير متكافئة وظالمة؟ 

لأن العقيلة زينب خرجت من إطارها الأنثوي المحدود الى رحاب المسؤولية الرسالية برؤيتها الشمولية للحدث والموقف، فهي في هذه اللحظات تحولت الى قائد عملي للمسيرة الى جانب ابن أخيها الإمام السجاد، وهو الإمام المعصوم، والمفترض الطاعة منها ومن جميع المؤمنين والمؤمنات، إنما بسبب علّته وصعوبة حركته، فان مسؤولية متابعة الايتام والارامل، ومواجهة الشامتين والناصبين العداء لأهل بيت رسول الله، وكل اشكال الضغوط النفسية، كانت ملقاة على عاتقها هي فقط، وهي "العالمة غير المُعلمة"، بشهادة الامام السجاد، ولذا قيل في حقها –وهو قليل- بأن للسيدة زينب فضلٌ كبير في إبقاء جذوة النهضة الحسينية متقدة في النفوس والاجيال طيلة اربعة عشر قرناً، وما تزال.

الدور المكمّل للرجل

كانت زينب كما أراد لها الامام الحسين، وكما أراد من قبل، أباها أمير المؤمنين، فهي مهمة ومسؤولية معهودة لها في السماء؛ "شاء الله أن يراهنّ سبايا"، يقول الامام الحسين في جوابه على دعوات عدم اصطحاب نسائه الى الكوفة، فقد كان عليها معالجة التصدّعات في كيان الأمة، من السلوك الفردي، والأخلاق الاجتماعية، وحتى السياسات العامة للزعيم والحاكم، لتحقق نجاحها الباهر في تكملة مشروع الإصلاح الحسيني من خلال ثلاث خطوات –من جملة خطوات- اتبعتها العقيلة خلال مسيرة السبي لتحوله من علامة للهزيمة العسكرية كما أراد الأمويون، الى وسيلة للانتصار كما هي الإرادة الإلهية.

1- جلد الذات والدعوة للتغيير الشامل

دعت العقيلة أهل الكوفة أن يبكون كثيراً ويضحكوا قليلا، في خطبتها القارعة والمنددة لهم ولخذلانهم، وذكرتهم بأنهم بمشاركتهم في قتل الامام الحسين، عليه السلام، إنما وجهوا سهامهم الى رسول الله، صلى الله عليه وآله.

ولنا وقفة تأمّل في كلماتها القاسية، وهي تراهم يبكون أمامها: "يا أهل الكوفة! ا أهل الكوفة ، يا أهل الختل والغدر، أتبكون؟! فلا رقأت الدمعة، ولا هدأت الرنة، إنّما مثلكم كمثل التي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثاً، تتّخذون أيمانكم دخلاً بينكم. ألا وهل فيكم إلا الصلف النطف؟ والصدر الشنف؟ وملق الإماء؟ وغمز الأعداء؟ أو كمرعى على دمنة؟ أو كفضة على ملحودة؟ ألا ساء ما قدمت لكم أنفسكم أن سخط الله عليكم وفي العذاب أنتم خالدون"، فأهل الكوفة لم يرو في هذا التقريع سُبّة لهم، بل وجدوا فيه استحقاقهم، فاذا لم تكن لتلك الكلمات تأثير مباشر على الحاضرين من المشاركين في جيش ابن سعد، فانها تنتقل من الافواه الى الاطفال والشباب ليكونوا فيما بعد جنوداً في الانتفاضات التي انطلقت من الكوفة في السنوات التالية ضد الحكام الأمويين والعباسيين على خطى النهضة الحسينية. 

2- فضح الشرعية المزيفة للسلطة في الكوفة والشام

طالما يستخدم الطغاة سياسة الترغيب والتهديد لتسيير الشعوب صوب سياساتهم وأحكامهم الجائرة، وهو الجدار الآمن والفاصل بين الحاكم وبين غضب الناس واحتمال انفجارهم بأي لحظة وعي، فجاءت العقيلة زينب، وهي في تلك الحالة الصعبة على أية امرأة في العالم، لتدمر هذا الجدار أمام طغاة مثل عبيد الله بن زياد في قصر الإمارة بالكوفة، وأمام يزيد في قصره بالشام، ففي ردّها على تشفّي ابن زياد بمقتل الامام الحسين تحت ستار الدين: "كيف رأيت صنع الله بأهل بيتك؟! فقالت: "ما رأيتُ إلّا جميلاً، هؤلاء قومٌ كتب الله عليهم القتال، فبرزوا إلى مضاجعهم، وسيجمع الله بينك وبينهم فتحاجّ وتُختصم، فانظر لمن الفلجُ يومئذٍ، ثكلتك أمّك يابن مرجانة"!!

وفي مجلس يزيد بالشام، حيث الخيلاء والكبرياء المزيف ونشوة الانتصار، كشفت السيدة زينب ببلاغتها المعهودة، وخطابها اللاهب، حقيقة الحكم الأموي المخالف للإٍسلام والقرآن الكريم ولسنّة رسول الله، وأكدت الحقيقة القرآنية بأن لا مستقبل للديكتاتورية مطلقاً وأن {العَاقِبَة للمُتقين}، فواجهت ذلك الجدار الوهمي الفاصل بين يزيد وبين جماهير الأمة بأن "أَظَنَنْتَ يَا يَزِيدُ حِينَ أَخَذْتَ عَلَيْنَا أَقْطَارَ الْأَرْضِ، وَضَيَّقْتَ عَلَيْنَا آفَاقَ السَّمَاءِ، فَأَصْبَحْنَا لَكَ فِي إِسَارٍ، نُسَاقُ إِلَيْكَ سَوْقاً فِي قِطَارٍ، وَأَنْتَ عَلَيْنَا ذُو اقْتِدَارٍ، أَنَّ بِنَا مِنَ اللَّهِ هَوَاناً وَعَلَيْكَ مِنْهُ كَرَامَةً وَامْتِنَاناً؟ وَأَنَّ ذَلِكَ لِعِظَمِ خَطَرِكَ وَجَلَالَةِ قَدْرِكَ؟ فَشَمَخْتَ بِأَنْفِكَ وَنَظَرْتَ فِي عِطْفٍ، تَضْرِبُ أَصْدَرَيْكَ فَرِحاً وَتَنْفُضُ مِدْرَوَيْكَ مَرِحاً حِينَ رَأَيْتَ الدُّنْيَا لَكَ مُسْتَوْسِقَةً وَالْأُمُورَ لَدَيْكَ مُتَّسِقَةً وَحِينَ صَفِيَ لَكَ مُلْكُنَا وَخَلَصَ لَكَ سُلْطَانُنَا"، تم تردف بالقول: "فَمَهْلًا مَهْلًا لَا تَطِشْ جَهْلًا! أَ نَسِيتَ قَوْلَ اللَّهِ: وَ لا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّما نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّما نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدادُوا إِثْماً وَلَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ".

ثم كانت الضربة القاضية: "ثُمَّ كِدْ كَيْدَكَ وَاجْهَدْ جُهْدَكَ! فَوَ الَّذِي شَرَّفَنَا بِالْوَحْيِ وَالْكِتَابِ وَالنُّبُوَّةِ وَالِانْتِجَابِ لَا تُدْرِكُ أَمَدَنَا وَلَا تَبْلُغُ غَايَتَنَا. وَلَا تَمْحُو ذِكْرَنَا وَلَا تَرْحَضُ عَنْكَ عَارُنَا. وَهَلْ رَأْيُكَ إِلَّا فَنَدٌ وَأَيَّامُكَ إِلَّا عَدَدٌ وَجَمْعُكَ إِلَّا بَدَدٌ يَوْمَ يُنَادِي الْمُنَادِي أَلَا لُعِنَ الظَّالِمُ الْعَادِي". (اللهوف في قتلى الطفوف- السيد ابن طاووس).

البكاء لغة الاعتراض 

يعتقد البعض أن بكاء المظلوم مدعاة للضعف والهوان أمام الظالم، إنما يجب اللجوء الى العنف المضاد فوراً والرد بالمثل، بغض النظر عن النتائج، بينما منطق العقل يدعونا الى الاستعداد الكامل من النواحي كافة لخوض معركة الردّ، وهو ما نجحت فيه العقيلة زينب، ومعها الامام السجاد فيما بعد واقعة عاشوراء، عندما عبئوا النفوس ضد الظلم والطغيان، بعد تليينها بدموع الأسى والألم على مصاب الامام الحسين، وأهل بيته.

وفي كتابه؛ زينب ابنة امير المؤمنين من المهد الى اللحد، لآية الله السيد كاظم القزويني –طاب ثراه- جاء أن العقيلة زينب بدأت مشروعها النهضوي لمحاربة قسوة القلوب والنفوس بإقامة مجالس العزاء الخاصة بالنساء في المدينة، وكانت تشرح لهنّ ما جرى في كربلاء من معاناة العطش، وقتل الرضيع، وحرق الخيام و ترويع النساء والاطفال، وتفاصيل السبي، وكانت النسوة بدورهنّ ينقُلن هذه التفاصيل الى الرجال لتنتشر بين المسلمين في المدينة مما ترك أثراً واضحاً في الرأي العام، أثار مخاوف الأمويين فأوعزوا الى يزيد بأن يأمر بترحيل العقيلة زينب من المدينة، وكان الرفض الشديد منها، عليها السلام، يقول السيد القزويني، بيد أن كلمات التهدئة من نساء المدينة وأن يزيد لا يتورع عن إشعال فتيل حرب جديدة يقتل فيها الرجال المؤمنين اذا ما هاجم جنده النساء في المدينة، لذا يكون خروجها بشكل سلمي افضل لها ولأهل المدينة، وكان كذلك، فغادرت الى الشام، وقضت فيها آخر ايام حياتها.

و لتكن زينب ابنة امير المؤمنين، المرأة المِثال في مواجهة المشاكل وتحدي الازمات التي يعيشها العالم اليوم، بل وفي معالجتها، واقتراح البدائل لحياة أفضل للمرأة نفسها، ولجميع افراد المجتمع. 

اضف تعليق